ليس على صاحب القلم من معضلة كبيرة وهو يتجول بين تلافيف مخه ليكتب عن فكرة يؤمن بها ويتعاطف معها أو يرد فكرة مضادة يرفضها ويأنفها، ففي الحالة الأولى يقدّم ما عنده من بضاعة علمية ومعرفية ليحصِّن ما آمن به ويجعل الآخرين يؤمنون بما يؤمن، وفي الحالة الثانية يستعرض ما عنده من أدوات النقض المعرفي ليدحض الفكرة ويكسر حلقات تحصينها بما يساعد على زعزتها في نفوس المريدين لها، والحرب الفكرية سجال لا محال، حرابها قلم الكاتب، وساحتها سطور صفحاته، ودماؤها مداد دواته، وفيها يجول في عرصاتها على فرس كلماته شاقًّا غبار المناكفات الفكرية.
ولكن المعضلة تتبدى علائمها عندما يخوض الكاتب في شخصية تاريخية يبذل جهده شاحذًا قلمه مستحضرا إياها من عمق التاريخ الملئ بالألغام المعرفية والقنابل الفكرية والمفخخات العقائدية التي لها أن تشعل الحروب الفكرية، وتعظم مسألة الإستحضار عندما تكون الشخصية علمًا فكريا ومذهبيا وعقائديا تدور على حلقات أفكاره أو مدارات كتبه حياة أمة في متبنياتها الدينية والمذهبية والعقائدية، بلحاظ أن هذه المتبنيات تجري في ضمير المؤمن بها مجرى الدم في العروق إلى أن يأذن الله لهذه الأرض بزوال ورحيل الى عالم الآخرة.
الشيخ الكليني أبو جعفر محمد بن يعقوب الرازي البغدادي المتوفى في بغداد سنة 328هـ، صاحب كتاب الكافي الذي منه يستقي فقهاء الإمامية الفروع والأصول، هو من مشاهير الفقهاء الرواة المحدثين الذين ولدوا من رحم الحضارة الإسلامية في القرن الثالث الهجري ومازال يفيض بما خلّده في كتاب (الكافي) على البشرية إلى يومنا هذا وحتى يظهر قائم آل محمد(ص) ليملأ الأرض قسطا وعدلًا ويبين للبشرية حقيقة الرسالة المحمدية في فروعها وأصولها.
المحقق والفقيه آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي، صاحب الموسوعة الحسينية، غاص في محيط تاريخ هذه الشخصية الكبيرة واستظهر مما وقع عليه منظاره المعرفي وخطه في 160 صفحة من القطع المتوسط صدر حديثا (2018م) وطوتها سجل كتاب تحت عنوان (مع الكليني في رحلته العلمية) أشرفت على طبعه شعبة إحياء التراث الثقافي والديني في العتبة الحسينية المقدسة بكربلاء المقدسة.
منهج استقرائي تحليلي
لكل كاتب طقسه في الكتابة والتدوين والطباعة والنشر فضلا عن الظروف الذاتية والموضوعية التي تدفع أو تمنع من الطبع، فليس بالضرورة أن يكون الكتاب قد ألَّفه صاحبه في رحم السنة التي صدر فيها أو قبله بقليل، فالكاتب المبدع المكثر تظل في حوزته الكثير من مؤلفاته الخطية ربما تفوق ما عنده من مطبوع، وكتاب (مع الكليني في رحلته العلمية) للمحقق الكرباسي وإن كان قد صدر حديثا في العراق وكاتبه قذف به قارب الغربة والهجرة الى لندن فإن خطوطه العريضة تمت كتابتها في بيروت سنة 1984م، ليرى النور بعد 34 سنة، وقد عمد الكرباسي في بيان سيرة الشيخ الكليني من خلال تتبع كتاب “الكافي” الذي أخذ من الكاتب عشرون عاما حتى أتمه، دار خلالها في الحواضر العلمية قادما من كلين إحدى قرى مدينة الري من توابع العاصمة طهران ليستقر في بغداد موطن السفراء الأربعة للإمام المهدي المنتظر الذي غاب عن الأنظار سنة 260هـ، فثقة الإسلام الكافي الذي ترك من المصنفات ستة إشتهر بكتابه الكافي الذي كان يسمى في أول أمره بكتاب الكليني، ولهذا إذا قيل الكافي تبادرت الى الذهن شخصية الكليني وإذا قيل الكليني تناهى الى السمع كتاب الكافي، فهما صنوان يُعرف أحدهما بالآخر، وهذه اللمعة الشاخصة التي امتاز بها الكليني التقطها الكرباسي ليتناول سيرة الكليني ورحلته العلمية من خلال تقصي حقيقة الكتاب نفسه، لأن ما كتب عن الكليني لا ينسجم مع المركز المرموق والمتقدم الذي عليه الكافي في فقه الإمامية، ولهذا كما يؤكد الأكاديمي العراقي المقيم في لندن الدكتور حسين الطائي: (سار الشيخ الكرباسي في الكتاب وفق منهج استقرائي تحليلي يقوم على استقراء جميع النصوص التي كتبت أو أشارت إلى الشيخ الكليني، أو ترجمت له، وجمعها في إطار واحد، ومن ثم استقرأها جميعا وفق المنهج التحليلي الذي يقوم على المقارنة العلمية بين كل ما كتب واستخلص النتائج، وهو في كل ذلك يرجو أن يكمل تلك الحلقات الضائعة في جانب الدراسات التي عنيت بشخصية وفكر الشيخ الكليني).
ولعلّ أهم ما رآه المقدم في الكتاب: (1) إن الكتاب جامع لكل ما كتب عن الشيخ الكليني أو ترجم له او أشار إليه، (2) محاولة المؤلف استقصاء الكتابات التي تناولت كتاب الكافي وأهميته من الجانب الحديثي والروائي، (3) هيكلة كتاب الكافي بأثافيه الثلاث: عدد الرواة وعدد الروايات وأبواب الكتاب، (4) أضاف الكرباسي في كتابه جديدًا من خلال تقصي الأخبار الفريدة عن الكليني المتوزعة في بطون الكتب، (5) إستقصاء شروحات كتاب الكافي باللغات المختلفة، إلى جانب مختصرات الكافي المطبوع منها والمخطوط، مع بيان الذين قاموا بتحقيق كتاب الكافي باللغات المختلفة، فضلا عن بيان الفهارس التي وضعها العلماء لكتاب الكافي (6) إستقصاء أقوال العلماء السنة والشيعة في بيان عظمة الكليني وأثر كتاب الكليني على المسيرة الفقهية.
هذه الحقائق أوجزتها شعبة إحياء التراث الثقافي والديني التي يرأسها الأستاذ إحسان خضير عباس، في مقدمة الناشر بقولها: (ورغبة منّا في الإضاءة على حياة ذلك العلم، وإيفاءً لبعض حقه على أهل الفكر والعلم، وتعويضًا عن الإجحاف الذي لحق به في كتب التراجم، قمنا بتقديمه بهذه الحلة القشيبة، آملين أن يسد ذلك الفراغ)
أرقام باهرة
يعتز أهل السُّنَّة بكتب حديثية ستة يرجعون إليها، وهي مع عدد أحاديثها بحذف المكررات: صحيح البخاري لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري (195- 256هـ) ويضم 2761 حديثا، صحيح مسلم لأبي الحسن مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري (206- 261هـ) ويضم أربعة آلاف حديث، سنن أبي داود لأبي داود سليمان بن الأشعث الأزدي السجستاني (202- 275هـ) ويضم أربعة آلاف حديث، سنن إبن ماجه لأبي عبد الله محمد بن يزيد القزويني (209- 273هـ) ويضم 4341 حديثا، سنن الترمذي لأبي عيسى محمد بن عيسى السلمي الترمذي (209- 279هـ) ويضم 3956 حديثا، وسنن النسائي لأبي عبد الرحمن شعيب بن عيسى النسائي (215- 303هـ) ويضم 5595 حديثا.
كما تعتز الإمامية بكتب حديثية أربعة يرجعون إليها، وهي: الكافي لأبي جعفر محمد بن يعقوب الكليني الرازي البغدادي (ن225- 329هـ) ويضم 16199 حديثًا، من لا يحضره الفقيه لأبي الحسن محمد بن علي بن بابويه القمي (ن306- 381هـ) ويضم 5963 حديثًا، الإستبصار فيما اختلف من الأخبار لأبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي (385- 460هـ) ويضم 5511 حديثًا، وتهذيب الأحكام للشيخ الطوسي السابق الذكر ويضم 13590 حديثًا.
ولكن ما يميز الإمامية عن غيرهم، أنَّ فقهاءهم لا يقطعون بصحة الأحاديث الواردة في الكتب الأربعة مع نسبتها جميعها إلى المعصوم، وأن كتاب الكافي يقع في مقدمة الكتب الحديثية الأربعة لدى الإمامية ويفوق كل واحد منها منفردة، من حيث عدد الأحاديث، بل ويفوق أحاديث الصحاح الستة مجتمعة، ومن ميزة الكليني أنه عاش في عهد الغيبة الصغرى وعهد سفراء الإمام المهدي(ع) الأربعة، وهم: عثمان بن سعيد العمري البغدادي المتوفى سنة 265هـ وابنه محمد العمري البغدادي المتوفى سنة 305هـ، والحسين بن روح النوبختي البغدادي المتوفى سنة 326هـ، وعلي بن محمد السمري البغدادي المتوفى سنة 329هـ، بل وتذهب المصادر إلى القول بأن الكليني تشرّف بلقاء الإمام المهدي(ع)، ومع هذا يؤكد الفقيه الكرباسي: (إنَّ ما ورد في الكافي كغيره من المؤلفات التي تخص الحديث لابد من دراستها من حيث سند الرجال ولا يمكن الأخذ بالحديث لمجرد كونه منسوبًا الى المعصوم عليهم السلام، ومن هنا لا يصح تسمية كتاب بالصحيح إلّا بإضافة كلمة عندي)، ولعل لهذا السبب بقي الفقه الإمامي متجددًا وباب الإجتهاد مفتوحًا على مصراعيه لحفظ الملّة والرعية.
في الواقع لا يحظى الكليني بتعظيم فقهاء الإمامية فحسب إنما يلقى إحترامًا وتقديرًا من عموم فقهاء المسلمين لعظيم ما ترك من آثار ومصنفات، وقد أتحفنا المحقق الكرباسي بثناء (46) فقيها من عموم فقهاء المسلمين بمذاهبم ومشاربهم المتنوعة تبين قدر هذه العالم الفذ، وأورد (32) شخصية قامت بترجمة الكليني، كما أحصى (31) شرحا للكافي لعلماء مختلفين وبلغات مخلتفة، و(8) اختصارات للكافي، و(5) ترجمات للكافي بلغات مختلفة، و(32) تعليقة على الكافي كلّا أو بعضا من أبوابه، و(11) تحقيقا في الكافي وأسانيده بعضأ أو كلّا، و(5) فهارس لأبواب الكافي وضعها علماء مختلفون.
وفي إطار حديث الأرقام، فقد أفرد المحقق الكرباسي عنوانًا لبيان أشهر ألقاب الكليني وهي: ثقة الإسلام، وشيخ المحدِّثين، وشيخ الأصحاب، والمجدد، كما أفرد عنوانًا لبيان ترجمة 37 علمًا من مشايخ الكليني، وترجمة 16 علمًا من تلامذته، وأفرد عنوانًا لبيان مؤلفاته وأبوابها، وهي: الكافي، الرجال، تفسير الرؤيا، الرد على القرامطة، ما قيل في الأئمة من الشعر، وكتاب رسائل الأئمة.
غريب شارع المتنبي
ما يميز المحقق الكرباسي في كتاباته ومصنفاته أن العمل الميداني هو صنو التحقيق الموضعي لا يحيد عنه، وهذا ما وجدناه في الموسوعة الحسينية حيث مال الى التحقيق الميداني في عدد من أبوابها وبخاصة عند الحديث عن المرقد الحسيني أو المراقد ذات العلاقة بالنهضة الحسينية مثل رأس الحسين(ع) في دمشق أو عسقلان أو مصر.
وفي تأليفه الحديث “مع الكليني في رحلته العلمية” سلك الكرباسي الدرب نفسه، وحيث يقع مرقد الشيخ الكليني في رصافة بغداد عند جسر الشهداء بالقرب من ساحة الرصافي وبموازاة شارع المتنبي، فقد كانت لنا فضيلة تحمل الرسالة العلمية الميدانية أوكل الفقيه الكرباسي مهمتها إليَّ لاستحصال التفاصيل عن المرقد الشريف فانطلقت الى العاصمة العراقية بغداد يوم الثلاثاء 23/12/2014م وجلست في حوار مستفيض مع الأمين الخاص للمزار الشريف فضيلة الشيخ شهاب حميد الشويلي وتنقلت بين أروقة المرقد الشريف، لتنتهي الرحلة الميدانية الى تقرير ألحق المؤلف ملخصه في الكتاب مكملا ما بدأه في الحديث عن المرقد الكليني ومراحله عبر التاريخ، وقد حاول نظام صدام حسين طمس معالمه، وحيث هو معلم شاخص بقبتين تحت ثراهما علمان نسبهما الى غيرهما حتى اذا زال النظام عام 2003م عاد شاهد القبر الى صاحبيه فقبة للكليني والثانية للقاضي أبي الفتح محمد بن علي الكراجكي المتوفى سنة 449هـ، وعاد المرقد الشريف الى حوزة الوقف الشيعي سنة 2005م وفق قانون رقم 19 كما أكد الشيخ الشويلي، وبجهود استثنائية من نائب رئيس الوقف الشيعي الشيخ سامي المسعودي.
وفي نهاية الكتاب وضع المؤلف مجموعة من الصورة واحدة للمرقد الكليني والكراجكي من الخارج، وثانية لشباك ضريح الشيخ الكليني من الداخل، وثالثة تمثال شخص الكليني المنصوب في مدينة كلين وهو من عمل الفنان محمد حسين خير آبادي، ورابعة لطابع أصدرته دائرة البريد الإيرانية في 9/3/2008م بمناسبة مرور 1100 عام على تاريخ رحيل الكليني، وخامسة صورة لمكتبة الشيخ الكليني أنشأتها في طهران وزارة الثقافة الإيرانية، وأخيرا صورة من الخارج لمرقد والد الكليني المدفون في مدينة كلين.
وعلى الرغم من الشهرة التي نالها الكليني وحظي به كتابه الكافي، فقد توقفت كثيرا عند قول المحقق الكرباسي في الديباجة: (إنَّ اكثر ما تجهله الأجيال الحاضرة عن أسلافها الغابرة حياتهم ونشاطهم وتراثهم التي بنيت عليها الحضارات والقيم في كل العصور على ما قبلها، وإنَّ أكثر خجلًا هو أن يخجل شعب عن ومضات ماضيه المشرق، وأن يتناسى غابره المشرق، تناسيًا لا عن شعور، بل خجلا لا عن قصور، هبّت عليه رياح ساخنة وحضارة غربية عابرة، فاحترق فتيل شموعه المنيرة فأصبحت حياته مظلمة. إن سيرة الرجل الماضي لَإشعاعةٌ لفتى المستقبل وإن حياة الرمز الغابر لأمثولة الشخص الحاضر)، فالذي أوقفني وآلمني أن هذه الشخصية العلمية التي يدين لها بالثناء فقهاء يأخذ بفقههم أكثر من ملياري إنسان، يجهلها أقرب الناس الى العلم والثقافة والفن الذين يتجمهرون كل جمعة في شارع المتنبي وحديقة القشلة في ندوات ثقافية وفنية وشعرية وغنائية واستعراضية، ولا يفصل بين شارع الثقافة أعني المتنبي ومرقد الكليني سوى عشرات الأمتار.
فهل يصدق قول المحقق الكرباسي على الغربة التي يعيشها الكليني وهو بين ظهراني أرباب العلم والثقافة والمعرفة وطلابه؟
الجواب متروك لمن يواظب على جمعات الثقافة في شارع المتنبي ببغداد، فهل يحسن الوقوف أمام المرقد الشريف يقتنص صورة تذكارية كما يقتنص صورة تذكارية تحت تمثال الشاعر المتنبي الذي يقف شامخا رافعا يده لجمهور شارع الثقافة وظهره لنهر دجلة!