5 نوفمبر، 2024 9:48 ص
Search
Close this search box.

مع العلامة حسن الأمين في حِلّه وترحاله – 2

مع العلامة حسن الأمين في حِلّه وترحاله – 2

أستاذ في الحلة 1938:
تشكلت وزارة جميل المدفعي الرابعة عقب اغتيال بكر صدقي وسقوط وزارة حكمت سليمان، واستوزر الشيخ محمد رضا الشبيبي للمعارف، مما شجّع الأستاذ حسن الأمين خرّيج الحقوق أن يشد الرحال بأمل أن يكون مدرساً بدل المحاماة التي أدار لها ظهره، فالتعليم أقرب الى نشاطه الأدبي والبحثي ويوفر له فائض وقت، وحيث كان العراق يعاني من شُحّ حقيق في المدرسين يسده الأساتذة المصريون، فقد وجد نفسه مدرساً للعربية في ثانوية الحلة ابتداء من عام 1938.
وقد ساكَنَ زميلين مصريين في منزل في حي يسمى أسماً غريباً لم اسمع به رغم معرفتي بالحلة وأحيائها لاسيّما حي “جامعين” الشهير، وغرابة الحي في اسمه “التعيس”، ولايفهمن القارىء أن هذه صفة الحي بل هي اسمه!! ويعلق الأمين: أننا لم نلمس بهذا الحي خصوصاً والحلة عموما كل الود والكرم..
وكان مدير الثانوية هو الأستاذ عبد الرحمن الركابي، الشخصية التي تجمع بين الكفاءة والحزم ودماثة الأخلاق، وحيث أن الغرض سد الشواغر من المدرسين وحيث توسم بالأستاذ حسن الكفاءة وقد سبقته شهرته فقد زاده التاريخ والإقتصاد، أي أصبح يدرس ثلاثة اختصاصات.. ولم يدرِ السيد ان كاتب هذه السطور استاذ الكيمياء قد انيط له تدريس العربية والفنون والرياضة البدنية وحصلت على كؤوس في مسابقات محافظة كربلاء!! يوم ابعدت الى ناحية الحرية (الصليجية) لشُحّ في المدرسين!
لقد فرح الأستاذ حسن بالحِلّة أيما فرح، لأن عائلته حِليّة المحتِد، حيث هجرها أحد أجداده ليصبح مرجعاً في جبل عامل وفي مدينة “شقرا” التي طابت لهم مقاما، وها هي الحلة الجميلة وأهلها الكرام تطيب له مُقاما! ثم هي شقيقة النجف الصغرى في العلم فمنها: العلامة الحلي والمحقق الحلي والشعراء: صفي الدين الحلي والسيد حيدر الحلي والسيد جعفر الحلي..ثم يقول ص143:
” لذلك كانت أجمل ايامي في الحلة وتلك السنة الدراسية التي أمضيتها فيها من أمتع أيامي وأعذبها. والحلة فضلا عن ذلك من أجمل المدن بفراتها وبساتينها، مما كان مبعثاً للشعر والنثر في نفسي ومما قلته فيها (أختارالمستهل وأزيد عليه بيتين/خ):
ظلٌ عل شط الفرات ظليلُ – ومرابعٌ فتّانةٌ وحقولُ
ليست تمل العينُ رائعَ حُسنِها – إذْ كلُّ حُسنٍ غيرِها مملولُ
الى أن يقول:
يانازلينَ على الشآم وإنكم – بين الجوانحِ في الفؤاد نُزولُ
وربما سننقل من شعره أكثر من ذلك في غير موضع ليُعطيَنا فكرة عن شعريته..
لقد فتحت الحلة قريحته ونشاطه الأدبي بعد ركود منذ تخرجه من معهد الحقوق عام 1934، فكان مقاله الأول هو بدايته الأولى عن أدب الرحلات ” من الشام الى دمشق” وقصيدته أعلاه هل الولى في الحلة وستتفجر كتاباته خلال تجواله في العراق مما كان له فتح في أدب الرحلات الذي برع فيه.
ورغم راحته في الحلة فقد ظل يتابع أخبار لبنان عن طريق الراديو، ومن خلال مجلة “العرفان” التي بقي يغذيها بنشاطه في الحلة دون انقطاع والتي كانت علاقته معها موسمية غير منتظمة منذ احتضنته وهو ذو الخامسة عشرة! وراح ينشر من الحلة في مجلات لبنانية اخرى منها دراساته عن الشاعر المظلوم ابن هانىء الاندلسي، ودراسات أخرى عن ابن زيدون!
مصرع الملك غازي:
في يوم الرابع من نيسان/أبريل لعام 1939 أذيع نبأ هزّ العراق كله، وخرجت الجماهير في الشوارع مصدومة من هول مصرع الملك الشاب غازي بحادث اصطدام سيارته بعمود قرب قصر الزهور، ويسلط الأستاذ الأمين الضوء على شخصية الملك المحبوب الذي عقدت الشعوب العربيه عليه الآمال، فقد سخّر إذاعته للتضامن من الشعب السوري المكافح ضد الفرنسيين المحتلين كما طالب بعودة الكويت للعراق الأم، وكان يحظى بشعبية مصدرها الحقد على المستعمرين البريطانيين والفرنسيين.. ويروي مرة أن سياسياً سورياً كان يلقي من الإذاعة مستصرخا بلغة نارية الملك غازي: يا غازي ياغازي أخوانك في سوريا يستنصرونك .. وإذا بصوت غازي يتعالى: لبيك .. لبيك..
ويروي أن غازي زار البصرة ليفتتح متنزهاً فيها فالغى كل البروتوكول ليذهب الى مستقبليه الفقراء ويتعشى معهم ويبيت عندهم! وكان غازي خصماً لدوداً لنوري السعيد، حتى أن الشعب كان يهتف علانية أن وراء مقتل غازي الانكليز وعميلهم نوري السعيد..
وقد أقيمت حفلة تأبين بعد ثلاثة أيام في الحلة كما في باقي من العراق، دعي اليها المؤلف والقى بها كلمة بليغة مؤكداً أن غازي هو ملك للعراق ولسورية ولكل العرب …الخ
ولئن انتهت صفحة الملك غازي بشكل دراميّ مُلغِز، مخلفاً ابنه الصبي فيصل بعمر دون الرابعة بشهر، برزت مشكلة اختيار الوصي لولي العهد فيصل، ودار الخيار بين زيد باعتباره عم غازي ليكون وصياً لكونه الأكبر سناً والأكثر حكمة واتزاناً وهو خيار الشعب، وقد خبره نوري السعيد وعرف عن زيد قوة شخصيته واستقلاله، وحاول أن يشوه سمعته فلم يفلح، بينما كان خيار الحكومة ورجلها القوي السعيد ذي التوجه البريطاني هو أن يكون خال فيصل عبد الإله هو الوصي وهو خيار بريطاني؛ وقد دعا نوري السعيد (المشبوه بتدبير جريمة القتل) الى محاولة التظاهر بعدم تحمسه لاختيار عبد الإله بأن دعا رؤساء الوزارات ليقولوا كلمتهم في اختيار الوصي وقد وقع اختيارهم بالاجماع على الأمير زيد باستثناء طه الهاشمي، وقد خيّب هذا الاجتماع بريطانيا ورجلها نوري السعيد فتوجه الى الملكة عالية التي حسمت الموقف بزعمها أن الملك الراحل غازي كان قد أوصاها في حالة وفاته أن تكون الوصايه لخاله عبد الإله!!
لم يكن عبد الإله يتمتع بشعبية فهو ذو مزايا لاترجحه منها انه رجل بريطانيا الثاني بعد السعيد، ومعروف عنه حبه وانشغاله باللهو والمجون وابتعاده عن الاتزان، وضعيف في شخصيته التي تجعله آلة بيد نوري سعيد الذي تحمس له..وأخيراً كانت لعبد الإله الوصاية!!
ورغم هذاحاول عبد الإله أن يكونّ لنفسه شخصية مستقلة حتى أصبح رجال العهد الملكي قسمين أحدهما لنوري والثاني مع البلاط، ولكن المرجعية الكبرى هي بريطانيا صاحبة القول الفصل!
وعن حرب 1948 يكتب (ص150)مبددا تلك الشائعات والأضاليل عن إحجام الجيش العراقي عن التقدم:
” لقد كتبت يوم ذاك عن موقف الجيش العراقي ما كتبت من الشر المريع واتهم قادته بما اتهموا به وانتشرت كلمة (ماكو أوامر) التي نسبت الى أولئك القادة زاعماً من اخترعها أن القادة العراقيين كانوا يجيبون بها من يطلب إليهم التقدم.”.
ثم يستأنف: “وقد كنت بحكم اتصالي الوثيق بالسفارة اللبنانية يومذاك – إذ كان سفيرها المناضل الوطني والمفكر العربي كاظم الصلح- مطلعاً على كثير من الحقائق والمفاوضات، وإني لآسف أني لم أسجل في تلك لفترة الأحداث اليومية حدثاً حدثا… وبذلك ضاع كثير من الأمور التي لو سجلت يومها لكان فيها جلاء ما لم يجلُ من الحقائق ونقض ما برز من الأباطيل”..
ويثبت في (ص 160)الأمين بتفاصيل مستفيضة عن الدور البطولي للجيش العراقي ومعاركه التي خاضها ببسالة في كفر قاسم وجنين ويشيد بدور القائد العسكري المحنك اللواء الركن عمر علي المسؤول عن القوات العراقية في فلسطين الذي كان متجها الى جبهة طول كرم حسب الأوامر حيث تلقى طلب نجدة من جبهة جنين حين القت القوات الأسرائيلية بكل ثقلها لاستعادة جنين، فما كان من عمر علي إلا أن يخالف الأوامر ويتحول الى جنين حيث كان النصر للقوات العراقية يوم الثالث من حزيران، لأن جنين أهم مدينة في فلسطين بينما طول كرم مدينة صغيرة.. ولم تتحرر جنين وحسب بل امتدت القوات العراقية حولها بثماني كيلومترات في كل الجهات..وكان بذلك النصر أن امتلأت مواقع المعركة لأول مرة بأكداس من القتلى الاسرائيليين!
دار المعلمين الريفية في الرستمية:
انتقل من الحلة ليعين في الرستمية أستاذاً في دار المعلمين الريفية، ولئن أسره جمال الفرات في الحلة فإنه الآن أمام جمال دجلة ونهر ديالى الذي يصب فيها مما يشكل مع خضرة البساتين النضرة جمالاً آسراً عكسه في أشعاره فلي-نطق الشعر إذن-؛ بعض من وصف ديالى وشواطئها:
سقت سرح (الدواوير) الغوادي – وجاد رياضَها المطرُ السكوبُ
تُحب النفس مغناها ويهوى – مسارحَها الفؤادُ ويستطيبُ
فكم راق العيونَ بها شروقٌ – وطاب على محانيها غروبُ
وفي تلعاتها كم رفّ ثغرٌ – وكم خفقت بواديها قلوبُ
يعاودنا إذا خطرت حنينٌ – وإن ذُكرت يهيج بنا وجيبُ
أسرحَ التينِ هل في الواد شادٍ – وهل في السفح غريدٌ طروبُ
ذكرناكم على شطّيْ (ديالى) – فطاب لنا بذكركم النسيبُ

وعندما غادرها الى لبنان ظلّ يحنّ اليها بصدق، ومما قال:
دالت الدنيا علينا يا (ديالى) – فهجرنا الشط والماء الزلالا
وتركنا في محانيك الظلالا – وارفات تملأ الوادي جمالا
كم أطلنا في النوى عنها السؤالا – وسهرنا الليل شوقاً وهُياما
أين في (الفيحاء) من عيني النخيلْ – أين وادي دجلة اين السهولْ
وديالى العذب فياضا يسيلْ – أين بغدادُ وشاطيها الجميلْ
ياليالي الشط والنأي طويلْ – إذكري ما عشتِ صبا مستهاما
أكتفي بهذا والقصائد طويلة..
وكان يسمى دار المعلمين الريفية دار الفقراء لأنها كانت لطلاب اختزلوا الطريق نحو الوظيفة لإعالة عوائلهم، ففي القسم الداخلي يحظون بالمأوى والمأكل الجيد، مع مخصصات مالية بسيطة يجهد الطلاب في التقتير لتحويلها الى أهليهم، ويتلهفون للتخرج ليقبض الواحد منهم راتب معلم شهري قدره خمسة دنانير! يوم كان للدينار العراقي هيبته.. وكانت هذه الدار هي العراق مصغراً من الطلاب العرب من مختلف نواحي العراق والأكراد والتركمان من الشمال..
وتبدو العربية صعبة ثقيلة على الْسن هؤلاء الطلبة وكان تقويم اللفظ والإلمام بالنحو هو الأهم ولكن فيهم الطلاب الأذكياء فهو يشيد بالطالب القاص غانم الدباغ الذي أعجب بقصصه وشجعه وكان يريده ان يواصل دراسته العليا لكن هيهات! ويشيد بالطالب صادق الأزدي وشجعه أن يلتحق بالصحافة وأن يعمل بأي عمل في الصحافة ثم يمد رئيس التحرير بمقالات فبالتأكيد سينشرها وهكذا تعين في إحدى الصحف بثلاثة دنانير شهريا ثم ترقى بعد شهر ليصبح محرراً براتب خمسة دنانير، وهكذا تنبأ وشجع غانم الدباغ الذي اشتهر قاصاً لاحقاً وصادق الازدي الذي غدا صحفيا لامعاً.. كما شجع طلاباً ممن وسم فيهم الاجتهاد على إكمال الدراسة العالية وقسم منهم ابتعث للخارج ونال الدكتوراه في شتى الاختصاصات!
وذكر أن جاءه مفتش معمم طويل القامة يتصنع الهيبة والوقار وراح يطرح اسئلة صعبة يتخير للإجابة عليها بعض الطالب من غير العرب وفي موضوع الإعلال والإبدال وهو موضوع عسير تعمد الخوض فيه ليكتب تقريرا غير منصف، والمفتش محمد بهجت الأثري ثقيل الظل بشهادة المرحوم قاسم الرجب صاحب مكتبة المثنى الذي يصفه بالبخل الشديد فكان ينتقي كتابا سعره نصف دينار ( خمسمائة فلس) ليدفع ستين فلساً ويتأبط الكتاب ويخرج ولا يكترث لنداء صاحب المكتبة!! ويذكر من المفتشين زكي مبارك خفيف الظل غزير العلم ومتواضع رغم أنه متحصل على دكتوراه من السوربون وأخرى من القاهرة ويكفيه انه مؤلف “النثر الفني”..
ويلاحظ أن الاستاذ حسن الأمين كان لطيفاً مع الطلاب قريبا الى نفوسهم مشجعا اصحاب المواهب، وكانت الرسائل التي تصله من طلابه مستمرة ومبهجة للطالب والأستاذ..
ومن الأحداث الهامة في الرستمية هو غضب نهر ديالى الذي فاض فيضاناً خطيرا أغرق معسكر الرشيد واقترب من بناية الدار وخفنا أن نموت غرقى، ثم بدأ ينحسر قليلاً قليلا نحو الزعفرانية مما جعل الأستاذ الأمين يرثي نفسه بقصيدة مجارياً مالك بن الريب لم يبق منها في ذاكرته سوى بيتين:
فليت طريق النهر لم تجرِ فوقه – مياهٌ تُريك الموتَ أحمر قانيا
تذكرت من يبكي عليّ فلم أجد – سوى الكتبِ والأقلام حولي بواكيا
-للموضوع صلة-

أحدث المقالات

أحدث المقالات