23 ديسمبر، 2024 4:50 ص

مع السيد السيستاني في التسوية العادلة

مع السيد السيستاني في التسوية العادلة

تعتبر المرجعية الدينية العليا صمام أمان لعموم فئات الشعب العراقي من أقصاه إلى أقصاه، وترى ان دورها يعني الاشراف على شؤون المؤمنين الروحية والعبادية والاجتماعية وهي تكليف وليس تشريف، وهي قبل كل شيء مقام ديني واجتماعي وليست مركزا سياسيا، واذا كان لها وجهة نظر سياسية فانه نابع من حرصها الشديد على أن ينال كل العراقيين حقوقهم، وأن لا يكون هنالك تمييز لشريحة معينة على حساب بقية شرائح الأمة، وعندما طالبت بكتابة الدستور وبأيد عراقية انما كانت تهدف الى احلال السلم المجتمعي وبسط العدالة الاجتماعية لكافة مكونات الشعب العراقي، وأن لا يكون لفئة ما امتياز على بقية الفئات، وهذا موقف أبوي تجاه جميع شرائح المجتمع العراقي وليس موقفا سياسيا ملزما. 
أما مطالبتها بإجراء الانتخابات فهي ضرورية في اشراك الشعب في انتخاب الدستور الذي يريد والأشخاص الذين يوفرون له سبل الحياة الكريمة، وهي ما تتوخاه الأمم المتحضرة من هذه الممارسات الديمقراطية، ولكننا شاهدنا عكس ما يتوخاه السيد تماما فإننا لمسنا تقصيرا واضحا من قبل الذين تصدوا للعمل السياسي في العراق من مختلف المكونات، من خلال ظهور التقسيم الطائفي للحكم في العراق ليس على اساس الكفاءة والنزاهة والمؤهلات كما كان يدعو اليه السيد السيستاني مرارا وفي مناسبات مختلفة، كذلك استشراء الفساد المالي والاداري في كل مفاصل الدولة وعلى مختلف المستويات، والذي لم يشهده العراق خلال تاريخه السياسي، وأخيرا أدى هذا التناحر بين الكتل السياسية والفساد المالي إلى سوء الخدمات وتزايد مستويات الفقر وسرقة المال العام، مما ادى الى استغلال هذا الترهل والضعف الحكومي من دخول المجموعات الارهابية وعلى راسها تنظيم داعش الهمجي والاستيلاء على مساحات واسعة من أرض العراق، وما اعقبه من تدمير للحرث والنسل والثقافة والآثار وكل ما يمت للإنسانية والثقافة من صلة، جاءت كل تلك الاخفاقات والانتكاسات من قبل السياسيين العراقيين بالرغم من التحذير المستمر من قبل المرجعية العليا من خطورة هذه الأمور على مستقبل العراق، ودعواتها المستمرة الى الالتزام بحقوق الشعب وتوفير الخدمات والعيش الكريم له والحفاظ على المال العام، كما كانت تطالب المواطنين في بداية كل انتخابات على مستوى النواب أو المحافظات، الى اختيار الأفضل على اساس الكفاءة والنزاهة لتولي المناصب العليا في البلاد، والمرجعية قامت بكل ذلك للحؤول دون رجوع الديكتاتورية في الحكم وانهاء حالة الانقسام والفساد المستشري بالطرق الديمقراطية وعن طريق كتابة الدستور واجراء الانتخابات، ولكن السياسيين بدل من ان يصغوا إلى منطق الحكمة، فإنهم تمادوا في غيهم واستمروا في نهجهم الخاطئ الذي جر البلاد إلى الهاوية، ولولا فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي للدفاع عن الوطن والمقدسات، لكن العراق أرضا ومقدسات وكرامة في خبر كان.
ومن المعلوم ان للتحالف الوطني حصة الأسد وذلك بسبب استحواذه على الكثير من المناصب الحكومية، وعليه فإن له نفس النسبة لما آل اليه العراق من فساد وتدهور وخراب، وبطبيعة الحال يشاركه في ذلك التدهور بقية الكتل حسب تمثيلها في البرلمان والحكومة، وبعد ان بح صوت المرجعية الدينية العليا المطالب بالإصلاح ولم تستجب الكتل السياسية لنصائحها، فمن الطبيعي أن ترفض لقاء جميع الكتل ومن ضمنها وفد رئاسة التحالف الوطني الذي كان يسعى مؤخرا لحشد الدعم لمبادرة مشروع التسوية الوطني، وفي هذا الاطار علق الناطق الرسمي باسم المرجعية حامد الخفاف قائلا: ان وفد رئاسة التحالف الوطني طلب موعدا للقاء السيد السيستاني الذي اعتذر عن لقائهم كما هي عادته منذ سنوات لنفس الأسباب التي دعته لمقاطعة القوى السياسية، والتي ذكرتها المرجعية في بيان شهير إبان الحركة المطلبية الاولى وأعادت تكرارها مرارا إبان الحركة المطلبية الاخيرة ولكن دون جدوى.واعقبه بتصريح آخر ان سماحته لم يبد اي موقف تجاه مشروع التسوية، وقد ابلغ ممثل الامين العام للأمم المتحدة وسائر الجهات المعنية فيما سبق بأنه لا يرى من المصلحة زج المرجعية الدينية في النجف الأشرف في امر هذا المشروع، بل يرى ان على القوى السياسية ان تتحمل كامل المسؤولية عنه أمام الشعب بتفاصيل بنوده وتوقيت طرحه وتوفير فرص نجاحه وغير ذلك، والسيد السيستاني وكما هو واضح من مواقفه لا يريد اجترار الماضي بكل مآسيه، بل يريد تسوية عادلة يضمن الشعب من خلالها حقوقه التي طالما غيبها أصحاب القرار السياسي في البلاد.
وليعلم الجميع ان باب المرجعية الدينية العليا باب رحمة وأنه مفتوح أمام الجميع، إلا أمام الذين لا ينفع معهم النصح والارشاد، وما يطرح من قبل البعض بأن مبادرة التسوية قائمة على تصفير الأزمات، يذكرني عندما كنا صغارا ونلعب (الدعبل والأورطة والطنب) وبعد أن نخسر في كل جولة نقول (من جده وجديد) أي لا نقر بخسارتنا، بل نتحدى الطرف الآخر باننا سنكسب الجولة باللعبة القادمة وهكذا وبدلا من أن نقوي مهاراتنا في اللعب نجتر الماضي بغلاف جديد، فالكتل السياسية بمختلف اتجاهاتها قد فشلت طيلة الثلاث عشر عاما من الحكم وهي فترة ليست بالقليلة، وتصفير الأزمات يعني عدم اعترافها بالخطأ واستمرارها بنفس السياسة السابقة من تقسيم الكعكة بين نفس الكتل السابقة ربما في هذه المرة بوجوه جديدة. ومكيدة تسويق الكتل لنفسها بثوب جديد لم ولن تمر على الشعب العراقي الذي خبرهم وذاق الأمرين من سطوتهم وتجبرهم وفسادهم، والتسوية المرضية من قبل الشعب هي انتخاب كتل وطنية جديدة تعمل من أجل العراق وحده، وتتصف بمواصفات الكفاءة والنزاهة مما يؤهلها القيام بدورها الوطني بعيدا عن املاءات الخارج وعن املاءات الأحزاب والكتل السياسية الفاشلة التي دمرت العراق أرضا وشعبا وثقافة وتعليما وحضارة، وحان وقت التصحيح الحقيقي وليس اجترار الماضي بكل مآسيه وتداعياته الخطيرة  التي ما زلنا نكتوي بلظاها الحارقة ونارها الفتاكة.