18 ديسمبر، 2024 8:32 م

مع ابن الوردي في جوازمه

مع ابن الوردي في جوازمه

أول الكلام:
ما ميّز العرب عن سواهم هو تشبثهم بأنسابهم، فالنسب هو مدعاة للاعتزاز والتفاخر، وعلى الرغم من أن الإسلام جاء بقيم جديدة وأهمها: إنّ الناس خُلقوا شعوباً وقبائل ليتعارفوا، وأعلى مراتب التعارف هو الزواج، وإنّ الناس سواسية كأسنان المُشط، ولا خير لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة..الخ؛ بيد أن قضية الأصل والفصل والحسب والنسب مهم في الجانب الاعتباري تبقى متجددة، ولعب الشعر في ترسيخ هذه القيم دوراً هاماً، ألم يقُل الشاعر؟:
أولئك أجدادي فجِئْني بمثلهم – إذا جمعتنا يا جريرُ المجامعُ
وقبله قال الشاعر الجاهلي:
إذا بلغ الفطامَ لنا صبيٌّ – تخِرّ له الجبابرُ ساجدينا
والمتنبي الشاعر العظيم الذي ظلّ يعاني من عقدة أبيه “عيدان السقّاء” جعلت هذا الألمعي يخرج من الكوفة ليجعل من شعره نسباً له ومدعاة فخر، وكان شجاعاً مُعتداً بنفسه أمام ممدوحيه مهما عظم مُقامهم:
لا بقومي شُرّفتُ بل شُرِّفوا بيْ – وبنفسي فَخرتُ لا بجدودي
ورغم بعد المسافة الزمنية التي تأتي بأفكار جديدة وتُذهب بأفكار بالية بقي النسب والفخر به يشكل ظاهرة قوية لدى العراقيين تضعف قليلا لتنبعث بقوة في زمن التدهور والانحلال، بحكم العلاقات العشائرية التي هي الأخرى تنتعش قي زمن التدهور الاجتماعي، فلا أعرف بلداً يضاهي العراق في التشبث بالنسب وجعله عنواناً للإسم بل ظهرت فئة النّسابة تبيع شهادات الإنساب لقاء مبالغ، مثلما تباع الشهادات الدراسية في سوق “مريدي” الشهير!
لا شك أن من حق الإنسان أن يسجل اسمه ونسبه لكن المسألة تجاوزت هذا الإطار فقد غدت ظاهرة الانتساب للأشراف من آل البيت هي الإخرى محل تجارة مربحة.. فالانتساب للإمام موسى الكاظم الذي أمضى سنيناً طوالاً من عمره في السجن، والذي كان متعبداً ورعاً يقوم الليل ويقضي النهار بين العبادة وقراءة القرآن ودروس الوعظ، فمن أين له أن ينجب هذا العدد الهائل من الأبناء والأحفاد؟!
بالأمس عجبت لمرأى شيوخ العشائر وهم يتقاطرون بل يتزاحمون لاستقبال وزير الخارجية الايراني ظريف بالقبل والأحضان، وبالأمس القريب كان أولادهم وقوداً للحرب مع الجارة..هذا الاستقبال جعل الضيف يتصرف ويصرح كما لوكان العراق من توابع إيران؛ مشكلتنا نحن العراقيين نحب بعاطفة جامحة ونكره بعاطفة جامحة وقلما نصدق بالعاطفتين، فمتى نرشد؟!!
***
لا أظن أن هناك من أبناء جيلنا وربما الذي قبله أو بعده لم يسمع بهذا البيت:
لا تقُل أصلي وفصلي أبدا – إنما أصلُ الفتى ما قد حصَلْ
والبيت هو من مطولة رملية قوامها سبعة وسبعون بيتاً، للشاعر عمر بن مظفر المشهور بابن الوردي (691-749ه/1292-1349م) وهو شاعر بارز، جسّد في عموم شعره الغزير وفي نثره ثقافته الواسعة فهو مؤرخ وقاض، وقصيدته تمثل أفكاره وأفكار شيوخ العصر المملوكي في مصر وحتى الشام، وهذه القصيدة أقرب الى النظم فهي خالية من الُمخيلة والعاطفة والبيان، ويجد القارىء فيها رتابة السرد وجفاف اللغة، بل ويجد التفاوت وحتى التضارب فلنسمع المستهل:
اعتزل ذِكرَ الأغاني والغَزَلْ * * * وقُلِ الفَصْلَ وجانبْ مَـنْ هَزَلْ
ودَعِ الـذِّكـرَ لأيـامِ الصِّبا * * * فـلأيـامِ الصِّبـا نَـجمٌ أفَـلْ
إنْ أهنا عيـشةٍ قـضيتُهـا * * * ذهـبتْ لذَّاتُهـا والإثْـمُ حَـلّ
ويبدو أن الشاعر لا يحب اللهو ولا الغناء وتذكُرَ جميل الأيام .. فهي ضمن الرأي السائد كونه يُلهي عن العبادة وذكر الله، ولا شك أنه نسي أو تناسى أن الله يقول: ولا تنسَ نصيبك من الدنيا.
لكن لشاعرنا الشيخ ابن الوردي حجته وتفسيره، لأنها قد ذهب زمانها وولى، فتناول الخمر هو الجنون بعينه، فمن ذا الذي يحب الجنون؟! ويقيناً لو قُدِّر للشيخ شربها لعدل عن رأيه ولتغزل بها كمن سبقه من جحافل الشعراء!
واهجُرِ الخمرةَ إنْ كنتَ فتىً * * * كيفَ يسعى في جُنونٍ مَنْ عَقَلْ
واتَّـقِ اللهَ فتـقوى الله مـا * * * جاورتْ قلبَ امريءٍ إلا وَصَلْ
ليسَ مـنْ يقطعُ طُرقاً بَطلاً * * * إنـما مـنْ يـتَّقي الله البَطَـلْ

ويذهب الشيخ بعيدا ليخبرنا أن الحياة فانية ولا تدوم لأحد بل دول عظيمة بادت ورجال جبابرة ذهبوا وانقرض ذكرهم أو كاد من نمرود وفرعون وهامان وكنعان…
لكن الشيخ يتلطف في وصاياه ويحث على العلم والعمل فإن طريق العلم هو طريق الصلاح:
إيْ بُنيَّ اسمعْ وصايا جَمعتْ حِكمـاً * * * خُصَّتْ بهـا خيرُ المِللْ
أطلبُ العِلمَ ولا تكسَلْ فمـا * * * أبعـدَ الخيرَ على أهـلِ الكَسَلْ
واحتفـلْ للفقهِ في الدِّين ولا * * * تـشتغلْ عنـهُ بـمالٍ وخَـوَلْ
واهـجرِ النَّومَ وحصِّلهُ فمنْ * * * يعرفِ المطلوبَ يـحقرْ ما بَذَلْ
لا تـقلْ قـد ذهبتْ أربابُهُ * * * كلُّ من سارَ على الدَّربِ وصلْ
ويبدو أن الشيخ الجليل قد أحسّ أن لغة التخاطب بالجوازم ثقيلة، فاستخدم لغة هيّنة حانية “أي بني” وهي لغة موجهة للشباب من الآباء.. أما الجوازم في كل القصيدة فهي بين “لا الناهية”، وفعل الأمر الذي أنكره الكوفيون كفعل بذاته لانعدام دالة الزمن وإنما هو بالأصل فعل مضارع مجزوم ب “ل”، “اهجر” أصلها “لتهجرْ”..
بل يذهب شاعرنا الشيخ ويطلب من الشعراء أو الذين ساروا على درب الشعر أن يقلدوه وينهجوا نهجه، ولا يقولوا غزلاً أو شعراً في الخمر أو اللهو والمُجون؛ فلنقرأ:
انـظُمِ الشِّعرَ ولازمْ مذهبي * * * فـي اطَّراحِ الرَّفد لا تبغِ النَّحَلْ
فهوَ عنوانٌ على الفضلِ وما* * * أحسنَ الشعرَ إذا لـم يُـبتـذلْ
ماتَ أهلُ الفضلِ لم يبقَ سوى* * * مقرف أو من على الأصلِ اتَّكلْ
أنـا لا أخـتارُ تـقبيلَ يدٍ * * * قَـطْعُها أجملُ مـن تلكَ القُبلْ
وهنا الشاعر محق، في ترك تقبيل الأيدي والخنوع لأصحاب المنزلة الرفيعة الى أن يقول:
ليس ما يحوي الفتى من عزمه * * * لا ولا ما فاتَ يومـاً بالكسلْ
اطـرحِ الدنيا فمنْ عاداتها* * * تخفِضُ العاليْ وتُعلي مَنْ سَفَلْ
‍عيشةُ الرَّاغبِ في تحصيلِها * * * عيشـةُ الجاهـلِ فيهـا أو أقلْ
كَـمْ جَهولٍ باتَ فيها مُكثراً * * * وعليـمٍ باتَ منهـا فـي عِلَلْ
صدقت ياشيخنا الشاعر كأنك عائش بين ظهرانينا وترى كيف تولى الحكم من كانت جيوبهم فارغة، عائشين على المساعدات في دول اللجوء، وكيف صاروا يتحكمون الآن بمصائر الناس، وكيف أن عوائل فقيرة وفيها من هم معدمون حكموا ونهبوا وعاثوا في الأرض فسادا ولم يشبعوا بعد وما زالوا في غيّهم سادرين..
لكن أسوأ بيت في القصيدة حين يوصي الشيخ أن ندع السلطان وشأنه لأنه شديد البطش، ولأنه لايتورع من أن ينادي على السيّاف وعدته السيف والنطع ليقطع الرؤس، فإيثار العافية هو أسهل الطرق! ولعل ساستنا سيترحمون لابن الوردي لقوله:
‍جانِبِ السُّلطانَ واحذرْ بطشَهُ * * * لا تُـعـانِدْ مَنْ إذا قـالَ فَعَلْ
20ك2/يناير 2019