قبل الولوج في موضوع العنوان اعلاه لابد من بيان من هم أصحاب النفوذ، هم الذين يملكون السلطة لقضاء حوائج الناس ويتولون امر العباد بحكم سلطانهم هذا، لذلك فان أي شخص يتولى وظيفة في الدولة، يتحكم بموجبها بمقدرات الشعب وله سلطة المنح والمنع،
كذلك الذين لهم سلطة الحكم على رقاب الناس، وكل من تولى الوظيفة أو مكلف بخدمة عامة ويقوم باستغلال سلطته أو منصبه للحصول على منفعة شخصية له أو لغيره، اما لمخالفته واجبات وظيفته عمدا او الامتناع عنها او مستغلاً منصبه الذي مكنه من العمل دون رقيب او حسيب، وحيث ان الشرع والقانون يحرم ويجرم أي مكسب يحصل عليه هؤلاء الأشخاص بمقابل ان يؤدي عملاً من اعمال واجباته الوظيفية وهو ليس باجر له، لأنه يتقاضى راتبا من الدولة،
لكن لوحظ بان بعض السلاطين والطغاة والمستبدين وحواشيهم يحصلون على مكاسب، منها الاقطاعيات والأراضي والمنافع والمصالح، بعنوان منحة من السلطان او بعنوان الهدية، بل تطور الامر الى اصدار قوانين تمنح هذه المكاسب لفئة محدودة من الناس وهؤلاء قد حصروا السلطة بأيديهم هم فقط، وسائر فئات المجتمع تكون مهمشة،
والجدير بالذكر فان احد فقهاء القانون الالمان اودغار بودنهايمر قد وصف هذه الحالة بقوله (ان حيازة مقدار واسع جدا من السلطة من قبل فئة اجتماعية معينة، لا يعني الا اضعاف الفئات الأخرى داخل النظام الاجتماعي مما يؤدي الى الى وضع قائم على التبعية والخضوع وهو وضع لا يأتلف مع المفهوم الحقيقي للقانون) نقلا عن مجلة الثقافة الجديدة العدد (1) نيسان سنة 1954 صفحة 163،
لكن هذه المكاسب والمنافع التي حصلوا عليها بحكم امتياز الوظيفة على انها منح من السلطان او على انها هدية، فان فقه الشريعة الإسلامية يعدها من المكاسب المحرمة، ويستدلون على قول الرسول الاكرم (ص) بان هدايا الامراء غلول، والغلول كما عرفه فقهاء الشريعة الإسلامية (بانه أخذ شيء من الغنيمة قبل قسمة الإمام، ويلحق به ما يؤخـذ عـن طريق الخيانة من بيت المال، ومن غلة الأوقاف، ومال اليتامى، ونحو ذلك) وأشار الى ذلك محمد جواد مغنية في تفسير الآية 161 من سورة آل عمران، في (تفسير الكاشف، منشورات مؤسسة دار الكتاب الإسلامي ، طبعة عام 2012 الجزء الثاني صفحة 195)،
لكن كيف نميز بين المكسب المشروع الذي يتحصل عليه هؤلاء من جراء عملهم، وبين الذي يحصلون عليه من جراء فسادهم، ومن خلال البحث والمطالعة وجدت معيارين كان قد أشار اليها المفكر الإسلامي الشيخ سميح عاطف الزين وهو من علماء الدين في لبنان، والأخر هو عالم الاجتماع المرحوم الدكتور عبدالجليل الطاهر وسأعرض لهما على وفق الاتي:
فاذا جردنا هذا المسؤول او الحاكم او أي عنوان فيه سلطة مطلقة غير مقيدة ولا تخضع لرقيب، وجلس في داره، فهل سينال من العطايا مثلما نالها وهو في عنوانه الوظيفي، فاذا لم يكن كذلك فان كل أمواله التي تكسبها هي غلول بل تصل الى ان تكون رشى حرمها الله ورسوله،
فإذا كان الناتج الحسابي وعلى فرض إن ذلك المسؤول يدخر جميع راتبه ولا ينفق منه أي مبلغ فإذا كان يتناسب مع ما يملك من أموال وعقارات وأرصدة في البنوك، فانه يكون نزيه، إما إذا لا يتناسب معه فانه بلا شك قد استغل وظيفته العمومية وأطلق عليه الدكتور الطاهر وصف (المجرم ذو الياقة البيضاء) وعلى وفق ما ورد في كتابه الموسوم (جرائم ذوي الياقات البيضاء ـ التفسير الاجتماعي للجريمة ـ طبعة ثانية عام 2020ـ منشورات دار ألكا في بروكسل ـ ص 46) ويقصد بذوي الياقات البيضاء هم (البارونات اللصوص) أو المتنفذين في الدولة من اللصوص الذين لا يستطيع القانون محاسبتهم فظهروا يرتدون ياقات بيضاء يحتمون بجدار المكانة الاجتماعية التي يشغلونها والنفوذ المالي والسياسي الذي يتمتعون به، ولتطبيق هذه المعادلة في الوقت الحاضر.
لذلك فان هذه المعايير لا تحتاج الى تدبر خاص من ذوي الاختصاص، وانما بإمكان عامة الناس تمييزها ومعرفة مكاسب ولاة امرهم الذين تمكنوا من رقابهم وجعلوهم طوع الانقياد بحكم القوة والشوكة التي مكنتها لهم وظائفهم وليس لقوة شخوصهم، وانما تكاتف العناوين الوظيفية المعنية بمكافحة هذه الصورة من الفساد وغيرها على ان يكونوا صفاً واحداً لاقتسام البلد و مقدارته، وان يبذلوا كل الجهد لقمع الشعب بل منعه حتى من التعبير عن وجعه،
حيث نلاحظ ان اغلب الجهات الإدارية المكلفة بإدارة مفاصل الدولة العراقية، عندما تخاطب عامة الناس فإنهالا تتبع معهم لغة التوضيح لعملهم باعتبار ان الشعب مصدر السلطات، وانما لغة الزجر والنهي، وكأن العامة خاضعين تابعين، وهذا يكاد يقارب ما عليه سلاطين الدم والاستبداد في استعباد الشعوب، مع انهم يعلمون والتاريخ يشهد بذلك ان القمع لا يميت الثورة ويبقى الشعب هو السيد، والحكام هم موظفين ومستخدمين لدى الشعب، وكل ما لدى هؤلاء الطغاة والمستبدين والسلاطين من قوة بحكم وظائفهم لا شخوصهم الهزيلة الراجفة، فإنها لا تقضي على الاحتجاج الشعبي ولا على التذمر الرافض لهم، وحتى ان عطلوا صوت الاحتجاج، فانه لا يُمنع، وانما فقط يصم هؤلاء الطغاة اذانهم عن السماع،
وان تعذر على الشعب من مواجهة القوة سواء قوة العسكر والسلاح او قوة القانون والاعتقال، فان الاحتجاج يتحول الى ثورة فكرية لابد وان تغير الواقع وعلى وفق ما ذكره الشيخ سميح عاكف الزين في كتابه أعلاه صفحة (16) ، مع التنويه الى ان اغلب العامة من الناس يعرفون هؤلاء وكيف كان حالهم قبل اغتصابهم للوظائف، وفي أي حال كانوا، لذلك أقول ان معرفة الكسب غير المشروع لهؤلاء الطغاة ليس بالامر الصعب على عامة الناس.
قاضٍ متقاعد