18 ديسمبر، 2024 5:16 م

علا الصياح في الصالة المجاورة.. ارتفعت الأصوات مستنكرة.. انفجرت أزرار سترته متناثرة.. هنا وهناك.. تطايرت ربطة عنقه معلنة.. نهاية فصول كانت مؤلمة.. فاقدا رباطة جأشه.. ألقى بالقبعة الرمادية.. غير مبال برفعة شأنه.. ولا بالوقار الذي كانت القبعة تضفيه.. على حاله كم كنت مشفقة.. خانه التقدير والاحترام.. خانته الانفعالات والتعابير.. ضاع منه السيف والقلم.. توقف العقل والزمن.. رفع أكفه تضرعا.. رفع صوته محتجا.. في حالة الانفلات وجد نفسه محتجزا.. علامات الإرهاق عليه بادية.. ثوران بركان من عينيه كان منبعثا.. نوبات غضب إليه متسللة.. من الخيانة كان مشتكيا.. للإلهام كان محتاجا.. للوفاء كان مشتاقا.. وقفت أمامه متأسفة.. على ما آلت إليه الأوضاع متحسرة.. يبحث عن توضيح إليه يستند.. عن قشة عليها يتكئ.. منطق تحكمه الأنا والأنانية.. “أنا الرابح الكاسر.. وأنت الخائب الخاسر”..
توالت الأصوات غاضبة.. اتحدت القواميس متشددة.. اجتمعت الحشود حوله منددة.. على رد الإساءة كانت عازمة.. إدانات تحمل في طياتها فوضى.. لا حدود لها ولا معنى.. عيون تذرف دموعا على الكؤوس المسكوبة.. “تبحث في الدنيا عن دوام حال.. ومتى كان لأحوال الدهر بقاء؟”.. الغبن والحزن عاده.. وهل ينفعه الندم ؟.. يبحث عن مسلك يرد له اعتبارا.. بسببه فقدت طعمه اضطهادا.. كيف تستنكر وأنت القاتل.. القائل..” لا ينال المرء إلا ما كتبت له الأقدار.. القلم جماد والشعر شيطان.. الخيال ذهان والمداد سائل.. حكمي واقع.. والسيف هو الضامن”.. أقول : ” القلم حبر.. والشطط جائر.. الفكر إنسان.. والقلم حسام.. الشعر دائم.. وأنت الزائل”.. لا تبكي على كأس أنت سكبته.. ولا عن حال بيديك صنعته.. تذوق كأس خيانة.. بمرارتها سوف تحرق.. لا تنتظر رأفة من قلب.. بلا رحمة أنت طعنته.. تذوق مرارة غدر.. علك تجد معنى لما اقترفته.. قد يغفر الله في الدنيا جنونا.. ولا يـسـامح سيد الخيانة ذنوبا.. يا من كنت بسحر الدنيا منبهرا.. وكنت على ذكائنا ساخرا.. أسألك الآن من فينا الظالم.. أنا.. أم الدهر.. أم الخائن ؟.. لا تتوقع مني تعقيبا.. فالجواب كان واضحا.. لا أنتظر منك توبة.. فالخائن لن يكون للأمة صادقا..
الخيانة هي أن تجعل مني ثورة بلا قضية.. إنسانا بلا هوية.. أن تدوس على وجعي.. بلا هوادة.. أن تتوقع سقوطي.. وتتمادى في تكفيري.. والله وحده يعلم ما في الصدور.. الخيانة هي أن تضيع مني فرصة الاقلاع.. ويتم بموجب قرارك إعفائي واغتيالي.. كي لا ترى الشمس تطلع من بلاد المغرب.. حتى لا يزعجك أمري وانتقادي.. وترى إخفاقك في عيوني.. يذكرك بعدم الكفاءة.. وبالنجاعة المفقودة.. بالضمير الميت.. وبإقصائي الممنهج.. بخيانة الامانة.. وبالعدالة المنشودة..
الخيانة هي أن تسمح للأحزاب بأن تطفو فوق حقوقي.. أن تسمح للأحزان بأن تغزو سمائي.. وتسمح للهشاشة باختراق جسدي.. وتدعي بأن الجزائر هي سبب بلائي.. أن تدعي بأنك للحق ناصره.. وأنك للوطن حماه.. أن تجعل مني مواطنا خائفا.. جائعا.. جاهلا.. ويجعل منك الجشع مسؤولا تافها.. فاسدا.. خائنا.. الخيانة هي ان تجعل مني طفلا عن أمه ضائعا.. رجلا عن الحق تائها.. مواطنا يغني “أنا عنك راحلا”.. الخيانة هي أن تجعل الأرض قاحلة.. والبحر مقبرة.. والوطن بقرة..
الخيانة هي أن تسرق ابتسامتي.. وتنهب رغيف بلادي.. أن تدوس على كرامتي سالت عليها دمائي.. الخيانة هي أن تجعل من المملكة مقبرة لأحلامي.. ان تعد بالبناء وتخلف بلا حياء.. أن تهب المدينتين قربانا للإسبان.. وتقرالمقاطعة مع الجيران.. وتوقع التطبيع بلا استئذاني.. وتجبرني على الرحيل قبل الأوان..
الخيانة هي أن تكون ماكرا.. والشعب عما تفعل غافلا.. أن أكون من الكلام ممنوعا.. وتكون انت على ذلك شاهدا.. أن تعانق العالم.. وتترك البلاد تبكي على حالها.. أن تعالج بفرنسا وأنا في الهامش منسية.. أن تختار تل-أبيب قرة علينيك.. والحسيمة متحسرة على أبنائك.. الخيانة هي أن يكون دوائي في الجبال مفقودا.. ويكون دواؤك في امريكا مضمونا.. الخيانة هي أن يكرهني الوطن وأنا بهواه متيمة.. وعلى عهده باقية.. أن نعيش جياعا على أرض أقسمنا.. ألا نقبل بسواها وطنا.. أن يكون الفساد لنا متربصا.. ويكون جيشه في الثكنات ساكنا..
خيانة الأمانة يا ولدي.. ليس بعدها ألم.. خيانة الوطن يا ولدي.. اسمها الخيانة العظمى.. أعمق من خيانة الذكر للأنثى.. أعمق من خروج المعنى عن المنحى.. أعمق من خيانة الشعر للمعنى.. وأعمق من خيانة النص للمبنى.. الخيانة هي أن تتقلد منصبا أنت له غير مناسب.. وأن تحتل كرسيا أنت فيه غير مرغوب.. أن تصدر أحكاما.. لذلك أنت غير مؤهل.. أن تدعي النزاهة.. للمصداقية أنت فاقد.. أن تدير مشاريع.. عروضك مشبوهة.. أن تساهم في اغتيال الأخلاق.. للمخاطر أنت مدرك.. أن تهتف بالانجازات والمضمون فارغ.. أن تتباهى بالنتائج والزمن تافه.. الخيانة هي أن يستمر نهمك والبطون جائعة.. أن تستمر بنفس الموال.. وفي نفس المكان.. والقصيدة صاحبها مجهول الوصال.. الخيانة هي أن تشتري اليوم حقا.. كنت له بالأمس بائعا.. الخيانة هي أن تشهد الدنيا أنك.. هنا تموت وهنا تحيا.. بالشعار.. الله.. الوطن.. الملك.. ثم تعصي الله.. وتغتال الوطن.. و..
الخيانة هي أن تستفرد بخيرات الوطن.. والشعب يبكي على حبات البصل.. الخيانة هي أن تجعل الجبال منك تخجل.. والبر عليك ينعل.. والبحر عنك يرحل.. الخيانة هي أن تجعل منا شحاذين ونحن للأرض مالكيها.. أن تجعل منا جياعا فوقها والغنى تحت الأرض ينادينا.. حكومات متلازمة الاستبداد.. والفساد.. لا جدوى منها.. النائب كما الوزير كما المستشار.. كل في فساده ينعم.. والشعوب لحضها مثلي تندب.. الخيانة هي أن تضع مصلحتك فوق كل اعتبار.. أن تصبح مقدسا من رموز البلاد.. الخيانة هي أن تصبح من فصيلة الذئاب.. وأصبح في حضيرتك مع فصيلة النعاج.. الخيانة هي أن تتنكر لتاريخ الأجداد.. وأن تستنزف قوتي.. وتجبرني على أن أدلي بهويتي.. وأثبت حسن نيتي.. كلما قابلتك في طريقي.. الخيانة هي أن توهمني أنني الشيطان وأنك السلطان.. أن تقول ما شئت وتفعل ما شئت.. وتجبرني على أن أقول وأفعل ما شئت.. أن تجبرني أن أحبك وأنت الجبان.. أن تهينني كي أنسى أنك الجبار.. الخيانة هي أن تقصيني وتلبسني الأسود مثل الغراب.. كي تظل على الكرسي هاربا من العقاب.. الخيانة هي أن تجعل الرجال تذرف الدموع كالأطفال.. وتجبرني أن أغني ” في وطني كثير من الأحزان”.. “وطني في قبضة الأنذال”.. (يتبع).