23 ديسمبر، 2024 12:26 ص

معنى التظاهرات في دائرة “علم النفس الاجتماعي”

معنى التظاهرات في دائرة “علم النفس الاجتماعي”

اشعر بالفرح .. عندما ارى تظاهرات تطالب بحقوق هدرت ، وبقوانين عطلت ، وبمشاريع تلكأت ، وبحكومة تحترم مطالب المتظاهرين ، ولا تطلق الرصاص الحي نحوهم ، و هذه من اهم مظاهر الديمقراطيات في العالم المتمدن .
في العراق .. اشعر ان السلوك الديمقراطي ، بحاجة الى نضج وانضاج ، والى تحضر وانتاج .
التظاهرات في العراق .. تباينت حسب الوضع السياسي السائد ، وقوة وضعف الدولة ، وحسب التغييرات النفسية و الاجتماعية والاقتصادية .. وتداعياتها .
كان علم الجماهير .. يرصد ويحلل قضايا الهياج الشعبي ، والاضطرابات والاضرابات .. لكن (علم النفس الاجتماعي ) المعاصر عالج بقوة وفطنة وعلمية كبيرة ، تقلبات الجماهير وانفعالاتها .. على عكس علم النفس الفردي الذي انتعش مع ظهور فرويد ، مهتما بالسلوك الشخصي .
اليوم .. نحن امام ظواهر متناقضة وسريعة تتفجر وسط المشهد السياسي ، لم يكن لها وجود في تاريخ المظاهرات التي كان تقودها الاحزاب السياسية في العهود السابقة .
كان التأثير السياسي في مقدمة الاسباب التي تحرك العراقيين في شتى معاركهم ، ومظاهراتهم ، وانتفاضاتهم .. بمعزل عن التوجهات الدينية .. مع تأكيدنا وحسب ما يذكر الباحث الفرنسي اديلمان ” ان السياسة ، حلت محل الدين ، حتى انها استعارت منه نفس الخصائص النفسية .. اي ان السياسة اصبحت دينا معلمنا .. وفي الحالتين اصبحت الجماهير اسيرة لتصوراتها الخاصة ، ومنقادة بشكل غريب ، الى رموزها الدينية والسياسية معا ” .
ان ظاهرة “الجماهير السياسية المؤطرة” تناولها الكاتب الفرنسي جان بودريار في كتابه المثير ( في ظل الاغلبيات الصامتة ) ونجح في فك طلاسمها في دائرة علم الدلالة والدراسات السيميائية التي تطورت مع ميشيل فوكو وجاك دريدا واخرين .
الثابت .. ان هناك من القادة التاريخيين الذين نجحوا في تأطير الجماهير سياسيا وادلجوا توجهاتها ، واثروا في عقائدها ، وغيروا افكارها .. على الرغم من ان هذه الجماهير تعيش في مجتمع ديمقراطي متنور .
وقد تناول الكاتب المعروف الاستاذ هاشم صالح في مقدمته لكتاب غوستاف لوبون الشهير ( ساكيولوجية الجماهير ) اسماء القادة الذين يحركون الجماهير من داخل وعمق النظم الديمقراطية .. مثل هتلر ، وموسيليني .. وفي النظم الشيوعية ، ستالين وماوتسي تونغ .. و غاندي الذي استطاع ان يقود الشعب الهندي نحو معارضة الانجليز ، بتظاهرات سلمية قل نظيرها .
ويشير الكاتب هاشم صالح ايضا ، الى تساؤلات اثارتها مدرسة فرانكفورت التي تضم مجموعة من الفلاسفة الالمان المعاصرين : كيف ان عصر التنوير الفرنسي .. لم يستطع التأثير على تفكير الجماهير التي قبلت وخضعت للدعاية النازية ، والفاشية في المانيا وايطاليا .. وكانتا من اكثر الدول رقيا وتحضرا .
ان معظم القواعد والقوانين المختصة بحكم البشر وقيادتهم التي جاءت على لسان ماكيافيلي ..لم تعد صالحة منذ زمن طويل .. لان الجماهير مجنونة بطبعها ، فهي تصفق بحماسة شديدة لمطربها المفضل او تتعصب لفريق كرة القدم بهلوسة وجنون ..والجماهير تصطف لساعات طويلة كي تشهد من بعيد مرور شخصية شهيرة . ويرى غوستاف لوبون في ساكيولوجية الجماهير ..
“ان هناك اسباب تتحكم بسلوك الحماهير .. اولها :
ان الفرد المنضوي في الجمهور يكتسب بواسطة العدد المتجمع شعورا عارما بالقوة ، مما يتيح له الانصياع وراء غرائزه .
وبما ان المحرضات القادرة على تهييج الجماهير متنوعة ، ومتعددة ، فهي تنتقل ، و بشكل مفاجيء من دور الضراوة ، الى مرحلة البطولة المطلقة ” .
ويشير لوبون ايضا ،الى قضية خطيرة في ساكيولجية الجماهير مشيرا :
ان الجماهير ، رهن العواطف السريعة والمتطرفة ، و رهن الاراء والافكار والعقائد التي تفرض عليها .
فالجماهير متعصبة بطبعها ، عاطفية في سلوكها .. تنصب الدكتاتور ، ثم تسحقه بأقدامها .. انها لاتحترم القائد الضعيف ، ولا تحترم قوانين الدولة الضعيفة ”
للاسف .. فان شعوب العالم الثالث ومنها الشعب العراقي .. تكاد تنطبق عليه مجمل هذه الاراء التي كتبها لوبون منذ سنة 1895.
لكن الغريب ..ان تتجدد ظاهرة الجماهير الهائجة المائجة في ربيعها السياسي ..في العراق والوطن العربي ، بمظاهرات واحتجاجات ضد الحكومات المتعاقبة ، مجسدة تقلب الشخصية العربية والعراقية ، وهي في اوج عنفوانها ، وعدم رضاها عن الاداء السياسي ، والفشل الحاصل في ادارة الدولة العراقية .. والغضب والاعتصام المتواصل من قبل جماهير معترضة كما هي اليوم على نتائج الانتخابات الاخيرة .
بين الانتفاضة التشرينية ، و التضاهرات الحالية .. تفترق المطالب ، وتتنوع الشعارات ، وتتلون الهتافات .. فهناك من طالب بوطن .. ونجح بتحويلها الى فكرة قوية وحالة وطنية .. واخر من طالب بكشف تزوير محتمل ، بهدف سياسي ، وانزوت الفكرة بين الاتباع والمريدين .. وهناك من خرج طواعية وبعفوية .. ومن خرج مرغما بمأمورية .. وهذا التناقض وحده يدعونا للمزيد من دراسة “علم النفس الاجتماعي ” لكي نخرج من هذه الازمة القاتلة بنتائج علمية .. تنقذ الشعب والدولة والوطن من مظاهر التخلف السياسي و التبعية الاقليمية والدولية ..