17 نوفمبر، 2024 7:39 م
Search
Close this search box.

معمل أدوية سامراء بين التجديد والوعيد!!*

معمل أدوية سامراء بين التجديد والوعيد!!*

معمل أدوية سامراء أول مصنع دواء في البلاد وربما في المنطقة العربية , بدأ إنشاؤه سنة 1965 وبخبرات سوفيتية آنذاك , وفقا لمعاهدة التعاون بين البلدين لعام 1959.
وكان حدثا كبيرا في المدينة تفاعل معه أبناؤها , وإستوعب الكثير منهم فعملوا فيه بعناوين متنوعة , من عامل إلى موظف , وكان المعمل ذو قامة علمية وخدمية وإنتاجية مؤثرة في الواقع الصحي حتى نهاية القرن العشرين , وبعدها أخذ التدهور والتآكل يصيبه , وما تحقق تجديد وتطوير له.
وفي ذروة تألقه كنت طبيبا فيه , وكانت صيدلية العيادة التي أعمل فيها تزخر بالأدوية التي ينتجها , وكنت فخورا أن أصف دواءً تنتجه مدينتي ويحمل إسمها , فأسماء الأدوية كانت تستوحى من إسم سامراء , فتقرن أحرفها الثلاثة الأولى أما ببداية أو نهاية الإسم.
وكان المعمل في حينها ورشة عمل صاخبة تعج بالنشاطات التعليمية والبحثية , ويزدحم بطلبة كليات الصيدلة , والعديد من الخبراء والباحثين والمختصين بعلم الصيدلة والكيمياء والبايولوجي والتصنيع الدوائي , ومنهم من يجدّ ويجتهد لإبتكار الجديد من الأدوية.
وتزوره الوفود بإستمرار ويتدرب بأروقته عدد من الوافدين من دول عربية.
وعندما كنت أتجول بين أقسامه أشعر بالسعادة والتفاؤل , وأنا أتأمل أبناء مدينتي وبلادي منهمكين بخطوط الإنتاج , فيتسابقون مع مكائن التعبئة والتغليف وهي تلقي بالأدوية على أحزمة دوّارة.
وكانت المطبوعات الدعائية جميلة وبإخراج مُتقن , وحسبته سيتطور ويُغني البلاد عن إستيراد الكثير من الأدوية , لكنه شأن أي إنطلاقة أو مشروع في بلاد العُرب أوطاني تدهورت أحواله وتلاشت قدراته وإنحسر إنتاجه وتآكلت بناياته , وما عادت بتلك النضارة والجمال والشموخ والزهو , وما عاد اللون الأخضر فيه سائدا , فقد جلبت الشركة السوفيتية التي شيّدته نباتات زاهية خضراء تتسلق الجدران , وما بقي لها أثر ولا عثرت على شيئ منها في أي مكان من المدينة بعد حين , حتى التي إهتممت بها وكاثرتها غابت وإندثرت , وكأن المدينة تأكل نفسها وتتناسى السرور والجمال الذي إشتهرت به فكانت كنيتها ” سر من رأى”.
ويبدو أن السوفيت قد درسوا تأريخ المدينة وعرفوها أحسن من أهلها , فجلبوا إليها ما يضفي عليها جمالا من النباتات التي وجدوا بأنها تنمو في ظروفها البيئية.
تذكرت معمل أدوية سامراء وأنا أقرأ عن الإستهانة بقيمته ودوره والسعي للقضاء عليه , وكأن المدينة عليها أن لا يكون فيها أي مشروع إقتصادي , وأن تذوي وتغيب وتُختطف من أهلها وتأريخها وذاتها وموضوعها , فالمدينة – على سبيل المثال – محرومة من التفاعل مع الزائرين كما يجري في مدن البلاد التي تسمى ” مقدسة”!!
وتألمت لأن أبناء المدينة لم يتمكنوا من بناء القاعدة الدوائية الراسخة وما تفاعلت خبراتهم وتطورت , وإنما إنقطعت بتقاطع أجيالها , فلا تجد فيها إلا بضعة نشاطات دوائية بدائية غير متوافقة مع عصرها , وإنما هي عبارة عن أعمال تعبئة لمواد مستوردة وغير مصنعة محليا.
وهذه علة تميّز مجتمعاتنا عن غيرها من مجتمعات الدنيا , التي ما أن ينطلق فيها مشروع حتى تجد أبناء المكان الذي تنامى فيه , قد إستثمروا خبراتهم وطوّروا نشاطاتهم , حتى أصبح بجهودهم مركزا عالميا أو وطنيا لإنتاج المادة التي إبتدأ بها المشروع.
فمجتمعات الدنيا تبني على الخطوة خطوات لا تُحصى ونحن مجتمعات تعيق حياة الخطوة , وتسعى لمحقها كما هو الحال في معمل أدوية سامراء , الذي كان من المفروض أن يكبر ويتطور ويتوالد ويكون مركزا عراقيا وعربيا للإنتاج الدوائي , وموئلا للعقول العربية الصيدلانية , لكنه الآن يبدو وكأنه بأسوأ حال , فهو في السبعينيات من القرن العشرين أفضل مما هو عليه اليوم بمرات ومرات , وهذا يعكس السلوك التقهقري الإنكساري الذي نعبّر عنه على جميع مستويات حياتنا.
وبرغم ما تعرض له المعمل الدوائي العريق من معوقات وعراقيل , يبقى السؤال الذي يستحق الجد والإجتهاد هو أيهما أفضل التجديد أم الوعيد؟!
التوعد ببيعه والقضاء عليه أم العمل الجاد على الإستثمار فيه وتجديده ومدّه بالقدرات والخبرات , وتحويله إلى منطلق حقيقي لصناعات دوائية عراقية ذات قيمة علاجية وإقتصادية نافعة للناس؟!
إن التقييم الموضوعي لواقع حال معمل أدوية سامراء يستدعي وقفة جامعة مانعة من أبناء المدينة للحرص على هذا الصرح العلمي الدوائي الفريد , وتغذيته بالخبرات من أبنائها الشباب المتطلعين لتقديم الجديد والذين تتوطنهم روح الإبداع والإبتكار , ففيها الكثير من الكفاءات العلمية والمعرفية القادرة على إحياء معمل أدوية سامراء , والإرتقاء به إلى مستويات إنتاجية ذات تنافسية عالية.
والمعمل مَعلمٌ متميزٌ من معالم وملامح المدينة فهو يحمل إسمها لأكثر من نصف قرن , فلا تطعنوا سامراء بقلبها , بإبادتكم لصورتها العلمية والإنتاجية المتميزة , فهي مدينة حضارية وذات شأن معرفي وعلمي صدّاح.
فالمطلوب التمسك بمعمل أدوية سامراء وتطويره وتحويله إلى مشروع إقتصادي عربي أو عالمي إستثماري المواصفات , فهو يمتلك ما يؤهله لذلك وفيه من الخبرات التي لو تفاعلت لإنتقلت به إلى مستويات معاصرة ذات ربحية عالية.
وبتطويره والإجتهاد بتوسيع خطوطه الإنتاجية فأنه سيستوعب المزيد من الأيادي العاملة , وسيكون موئلا علميا للأجيال الصاعدة , التي عليها أن تتعلم صناعة الدواء وتخبر مهارات إنتاجه وتسويقه والعمل الجاد على الإستثمار فيه.
وبما أن معمل أدوية سامراء يمثل ذات المدينة العلمية وشخصيتها الوطنية العربية المعاصرة , فلا يمكن الإستهانة به والكلام عنه بأسلوبٍ يهدد مصيره , أو تحويله إلى بضاعة في أسواق المزايدات الرخيصة!!
فلماذا نتسابق نحو التهديد والتدمير ولا نؤمن بالتجديد والتطوير؟!!
ولن تنمحيَ علامة
!!SDI

*يمكنني أن أمضي بالكتابة عن معمل أدوية سامراء لكنني أكتفي بهذا القدر عسى أن ينفع ما قلّ ودلّ!!

أحدث المقالات