18 ديسمبر، 2024 9:02 م

” معطف ” غوغول ، وتمرد الانسان المقهور في آداب الشعوب

” معطف ” غوغول ، وتمرد الانسان المقهور في آداب الشعوب

” المعطف ” رواية قصيرة للكاتب الروسي نيكولاي غوغول ، شكلت نقطة تحوّل مفصلية بالغة الأهمية في الادب الروسي ، وامتد تأثيرها الى مجمل الأدب العالمي ، فقد كانت جديدة في موضوعها واسلوبها الساخر الكوميدي – المأساوي ، والأهم من ذلك انها كانت اول قصة عن ” الأنسان المقهور” – من حيث موقعه في السلم الاحتماعي بصرف  النظر عن صفاته الشخصية –  وما يعانيه من ظلم اجتماعي وانتهاك لكرامته الانسانية ، في حين كان الادب السردي الروسي قبل ” المعطف ” يتناول في المقام الأول ، حياة ومشاغل الطبقة المرفهة من الأقطاعيين والنبلاء ، واصحاب السلطة والنفوذ في المجتمع .

في ” ألمعطف ” تهكم لاذع ، وانتقاد شديد للقيم الأجتماعية الزائفة ، التي كانت سائدة في المجتمع الروسي في العهد القيصري . وتوحي القصة بفكرة الحاجة الى بنية اجتماعية أكثر انسانية وعدالة . ولهذا اصبحت الأفكار والصور ، التي تزخر بها قصة ” المعطف ” معينا لا ينضب للكتاب الروس الآخرين ، وفي وقت لاحق للعديد من الكتّاب الأجانب في شتى انحاء العالم .

قصة ” المعطف ” بضمير المتكلم ، والراوي على دراية جيدة بحياة الموظفين . بطل القصة اكاكي اكاكفيتش باشماتشكين- موظف صعير باحدى ادارات سانت بطرسبورغ . وهو شخص بائس  وذليل .ويقول غوغول ان أكاكي أكاكيفتش:” رجل قصير القامة ، مجدور الوجه، بشعر مائل الى الاحمرار ، ضعيف البصر. له صلعة صغيرة في مقدمة رأسه ، وتجاعيد على خديه.

وكان زملاء العمل ، بستخفون به استخفافا يقابله بلا مبالاة ، وردًا على اي اهانة توجه اليه ، كان يكرر عبارة واحدة لا تتغير: ” دعني وشأني ، لماذا تسيء إليًّ؟ . حتى الحراس في الدائرة كانوا ينظرون اليه كمكان فارغ حين يمر امامهم ، كما لو أن ذبابة حلقت عبر غرفة الاستقبال. وكان هناك شيء غريب في كلماته وصوته – كان فيه شيء ما يدعو الى الشفقة. .

البناء السردي في “المعطف” مبتكر ، حيث تتحول الصورة الهزلية لـاكاكي اكاكفيتش تدريجيا الى صورة مأساوية ً.

الخياط الذي قام بترقيع المعطف مرات عديدة، رفض ترقيعه مرة أخرى ، لأنه أصبح رثا باليا ، بحيث لم يعد بالإمكان إصلاحه. ونصح اكاكي اكاكافيتش بتفصيل معطف جديد له ، ولكن الموظف الصغير البائس ، لم يكن يملك أي مال ، ففرض على نفسه حالة من التقشف الصارم  لكي يستطيع تامين ثمن المعطف الجديد : في المساء لا يشعل الشموع ، لا يشرب الشاي. ، يمشي في الشوارع خفيفا وبعناية شديدة ، “تقريبًا على أطراف أصابعه” ، لكي لا “يمسح الحذاء سريعا ، ولم يعد يعطي ملابسه المتسخة لغسالة الملابس الا نادراً . ويقول غوغول : ” في البداية كان من الصعب إلى حد ما أن يعتاد اكاكي اكاكافيتش على مثل هذه القيود ، ولكن بعد ذلك اعتاد عليها بطريقة ما ، وتكيّف معها بسلاسة ؛ حتى أنه كان معتادًا تمامًا على الجوع في المساء ، ولكنه كان يتغذى روحيا ، حاملاً في ذهنه الفكرة الأبدية للمعطف المستقبلي. يصبح المعطف الجديد حلمًا ، ومعنى لحياة اكاكي اكاكافيتش.

هذا هو المعطف الجديد جاهز الآن . ولهذه المناسبة يقيم زملاؤه مأدبة على شرف المعطف . اكاكي اكاكفيتش السعيد لا يلحظ أنهم يسخرون منه . وفي الليل عندما كان في طريقة الى مسكنه ، هاجمه اللصوص وانتزعوا منه معطفه الجديد . سعادة هذا الانسان لم تدم سوى يوما واحداً ، عندما ارتدى معطفه الجديد . في اليوم التالي جاء اكاكي اكاكافيتش الى مقر عمله شاحب الوجه مهموما ، وهو يرتدي معطفه القديم المهلهل ، الذي اصبح رثا وباليا أكثر من السابق . ثمّ ذهب الى مركز الشرطة طلبا للمساعدة ، ولكن لم يلتفت احد الى شكواه . فلجأ الى ” مسؤول مهم ” لعله يساعده في استعادة معطفه الجديد ، ولكن المسؤول طرده شر طردة ، ورفض سماع شكواه . أثرت هذه الصدمات المتلاحقة في نفس اكاكي اكاكفيتش  لدرجة أنه لم يستطع تحملها . وسرعان ما مرض ومات. “اختفى الى الأبد مخلوق لم يكن محميا من أحد . ولا عزيزاً على أي أحد ، ولم يهتم به أحد . ولم يشعر بالسعادة في حياته ، إلا حين أضاء المعطف الجديد حياته الكئيبة ليوم واحد “.

ويقول غوغول ان موت ” انسان صغير ” لم يغير شيئا في القسم الذي كان يعمل فيه ، وسرعان ما حلّ موظف آخر محله ببساطة.

رغم ان ” المعطف ” قصة نموذجية لحياة لرجل مقهور في مدينة كبيرة ، الا انها تنتهي بشكل خيالي . فبعد وفاة اكاكي اكاكفيتش يظهر شبح هائل الحجم في شوارع سانت بطرسبورغ ليلا ، ويقوم بانتزاع معاطف المارة . البعض شبه الشبح باكاكي اكاكفيتش والبعض الاخر لم يجدوا أي شيء مشترك بين الشبح السارق وبين الموظف الخجول المتوفي .

ذات ليلة التقى الشبح “المسؤول المهم” وجها لوجه وقام بتمزيق معطفه  . واثار الرعب والهلع في نفسه الى درجة انه خشي من آثار هذه الواقعة على صحته . بعد هذا الحادث بدأ هذا المسؤول في التواصل ي مع الناس على نحو أفضل .

تشيرنهاية القصة الى ان المؤلف. يتعاطف مع مصير ” الانسان المقهور “. ويدعونا إلى أن نكون منتبهين لبعضنا البعض ، وكأنه يحذر من أن الشخص المسيء سيكون مسؤولا في المستقبل عن اساءاته للناس .

قصة المعطف تعكس ثنائية التعاطف والسخرية في اسلوب غوغول ، وتؤكد ان الموظف الصغير المقهور قادر على التمرد والأنتقام .

” الانسان المقهور ” في آداب الشعوب   

منذ نشر قصة ” المعطف ” تناول معظم الكتّاب الروس ثيمة ” الانسان المقهور ” على نطاق واسع . ويمكن القول أنه لا يوجد كاتب روسي – منذ نشر معطف غوغول – لم يتناول ” الانسان المقهور ” في أعماله وفي مقدمتهم ايفان تورغينيف ، وفيودور دوستويفسكي وانطون تشيخوف ، وميخائيل زوشينكو .

لقد اعتاد الباحثون والتقّاد الروس على اقحام اسم أمير الشعراء الروس الكساندر بوشكين في كل صغيرة وكبيرة في الأدب الروسي ، والاشادة  بريادته في كل ما احرزه هذا الأدب من انجازات عظيمة. وهم يقولون ان بوشكين هو اول من صوّر الانسان المقهور – ويسميه الروس – الانسان الصغير – في قصة ” ناظر المحطة ” . اجل ثمة ” رجل صغير” في هذه القصة ، ولكنه ليس مسحوقا ولا متمردا ، ولا علاقة بين” ناظر المحطة ” وبين رائعة غوغول ” المعطف ” واسلوبه المتفرد ، الذي يمتزج فيه التعاطف والشفقة بالتهكم والسخرية . ناظر المحطة لم يتمرد على واقعه البائس ، ولم يفكر في الانتقام من الضابط الذي أغوى ابنته ، وحرمه من رؤيتها . تخطى تأثير قصة ” المعطف ” حدود روسيا الى الآداب الأخرى . وأصبح ” الانسان المقهور ” البطل المفضل لمئات الكتاب الآخرين في أنحاء العالم جيلا بعد جيل .

ويبدو تأثير قصة ” المعطف ” واضحا في الكثير من قصص كبار الكتّاب الغربيين والعرب ، منهم فرانز كافكا ، وشيروود اندرسون ، وجيمس جويس ، ونجيب محفوظ وغيرهم..

قارن الكاتب الروسي –الأميركي فلاديمير نابوكوف – خلال محاضرة له في احدى الجامعات الأميركية – بين قصة ” المعطف ” لنيكولاي غوغول ، وقصة ” التحول ” لفرانز كافكا . انسانية بطل القصة في كلتا الحالتين تفصله عن الناس الآخرين من القساة ، عديمي الضمائر والشفقة .، حيث نجد البطل يقوم بتمزيق شرنقته ،ويتخطى حدود الهوية المفروضة عليه  ،  ليتحول الى شبح هائل  

قال غابريل غارسيا ماركيز : ” ان الواقعية السحرية لأميركا اللاتينية مدينة الى حد كبير لقصة “المعطف” لغوغول “.

قصة نجيب محفوظ ” المقابلة السامية ” – المنشورة في مجموعته القصصية ” الجريمة ” تتناول مشكلة الموظف الصغير المنسي ، الذي يعمل في قسم الأرشيف ، ويعاني من نظام بيروقراطي ظالم ، يسود فيه التسلسل الهرمي للسلم الوظيفي والاجتماعي ،. هذا السلم الذي يقضي على احلام الانسان المقهور في مجتمع يفتقر الى العدالة الأجتماعية .

حاول موظف الأرشيف مقابلة مديرعام المصلحة، ولكن ساعي السكرتير الخاص ، لم يسمح له بالدخول ، ونصحه ان يكتب حاجته على عرضحال تمغة وارسالها بالطريق الاداري المتبع. .

مرت مدة طويلة ، تابع موظف الارشيف خلالها  سير شكواه دون جدوى ، واخيرا تمًّ حفظ الطلب . ولكنه لم ييأس ، واخذ يتحرى مواعيد المدير العام وحركاته وسكناته ، وقرر ان لا يذعن للقوة الباغية ، ولا للأوامر المكتبية العمياء . واراد عرض طلبه على المدير العام مباشرة لدى خروجه من المصلحة في نهاية الدوام الرسمي ,

يقول موظف الارشيف :” وعندما حاذاني في سيره بسملت ثم وثبت نحوه لأجثو بين يديه مستعطفا .

وصاح رجل :

– المجنون .. حذار يا صاحب السعادة

ووقع اضطراب شامل وضوضاء عالية “.

لم يدرك ما حدث فقد حوصر تحت ضغط غشرات من الأيدي القوية ، ووجهت اليه تهمة الاعتداء على المدير العام  انتقاما لحقظ طلبه .

وقد تعلم في السجن حرفة النجارة ، وفي ميدانها يكدح اليوم لتربية الأولاد ؟

كما نجد تأثير قصة ” المعطف ” واضحا في رواية أحمد سعداوي ” فرانكشتاين في بغداد “. حيث يقوم بطل الرواية هادي العتاك ” بائع عاديات من سكان حي البتاويين وسط بغداد بجمع بقايا جثث ضحايا التفجيرات الإرهابية ، التي حدثت في اعقاب الاحتلال الأميركي للعراق ، ليقوم بلصق هذه الأجزاء فينتج كائناً بشرياً غريباً، سرعان ما ينهض ليقوم بعملية ثأر وانتقام واسعة من الأرهابيين  القتلة “.

وثمة اليوم مئات القصص المشابهة في آداب شعوب العالم .

لو لم يكتب نيكولاي غوغل سوى قصة ” المعطف ” الرائدة ، لكان ذلك كافيا لخلود إسمه في تأريخ الأدب العالمي .