تواجه معضلة مكافحة الفساد صعوبات كبيرة تتجسد في شيوع مبدأ المحاصصة دون معيار الكفاءة والخبرة والنزاهة ، يضاف لها عدم التبرأة من الفاسد بل الدفاع عنه بشكل قوي بسبب الصراعات بين الكتل السياسية مما أدى الى ضعف الرقابة والمحاسبة وعدم قدرة المجالس الرقابية المنتخبة ( مجلس النواب ، مجالس المحافظات ، ديوان الرقابة المالية ، هياة النزاهة ، مكاتب المفتشين العموميين) على بسط نفوذهم على المفسدين، والتغاضي عن هدر المال العام من خلال توظيف بعض الثغرات التي تساعد الفاسدين على هدر المال العام، فضلا عن الاسهام في نشر الفساد وشيوعه قبل التحقق منه واصبح الناس ادوات للفساد دون ان يشعروا وذلك عبر وسائل التواصل الاجتماعي .
هذا كلام طالما تكرر على مسامعنا جميعا، لكن السؤال من يهدم معبد الفساد .. وجميع (الهة الرئاسات الثلاث) منتفعين منه طالما مريديهم من جمهوريات المكونات يسبحون بحمد الكومشنات او على الأقل يجلسون على مقاعد السلطة ويتنعمون بها بعد ان كان أحدهم يحكم بن يكون مشرفا تربويا فاذا به يهيمن على دولة خفية تنهب أموال الشعب !!
وهنالك من يدعو الى اشاعة مفهوم ان المال العام هو مال الله وان مال الله هو مال الشعب، و حرمة الاعتداء على المال العام باية صورة من الصور ولا يجوز التصرف فيه، وتطالب الجهات الرقابية الى أهمية سد بعض المنافذ التي يتسلل منها المفسدين للاعتداء على المال العام وتبرير فسادهم من خلال تفعيل مبدأ المسؤولية والمحاسبة وعلى الجميع الوقوف بوجه من يعتدي على المال العام لينال الجزاء العادل ،وتولية الصالح واقالة الفاسد والصالح هو القوي الامين والنزيه والخبير مع ضرورة توفر عاملي القوة والامانة لمن يتبوأ المناصب الادارية .
وإذ تعزز إجابة المرجع الأعلى اية الله السيستاني للشباب الجامعي هذا المنهج، لهدم معبد الرئاسات الثلاث ، الا ان الحقيقة التي لا يمكن لاحد تغطيتها بغربال ان مواقف المرجعية الدنية ينظر لها شزرا من قبل المتصديين للسلطة حينما تواجه الإرهاب بنموذج الفساد ، فيما توظف كليا في وسائل الاعلام الحزبية لصالح اجنداتهم المتضاربة والمتعارضة في مثال حي وقعت احداثه في جلسة استجواب وزير الدفاع ، ويقول المرجع السيستاني في جوابه على أسئلة الشباب الجامعي ما نصه ((ومن ولّي أمراً من أمور المجتمع فليهتم به وليكن ناصحاً لهم فيه ولا يخونهم فيما يغيب عنهم من واجباته، فإنّ الله سبحانه متولٍّ لأمورهم وأمره جميعاً و سوف يسأله يوم القيامة سؤالاً حثيثاً، فلا ينفقن أموال الناس في غير حلّها، ولا يقرّرن قراراً في غير جهة النصح لهم، ولا يستغلّن موقعه لتكوين فئة وحزب يتستّر بعضهم على بعضٍ ويتبادلون المنافع المحظورة والأموال المشبوهة، ويزيحون الآخرين عن مواضع يستحقونها أو يمنعون عنهم خدمات يستوجبونها، وليكن عمله لجميع الناس على وجه واحد فلا يجعله سبيلاً للمجازاة على حقوق خاصّة عليه لقرابة أو إحسان أو غير ذلك، فإنّ وفاء الحقوق الخاصّة بالحق العام جور وفساد، فإن ساغ لك ترجيح أحد فعليك بترجيح الضعيف الذي لا حيلة له ولا جهة وراءهُ ولا معين له على أخذ حقّه إلاّ الله سبحانه. ولا يستظهرنّ أحد في توجيه عمله بدين أو مذهب، فإنّ الدين والمذاهب الحقّة قائمة على المبادئ الحقّة من رعاية العدل والإحسان والأمانة وغيرها)).
ولست بصدد شرح مضامين هذا النص، لكن اليس قائمة التحالف الوطني في أساسها قد شكلت من قبل لجنة انبثقت من مكتب المرجع السيستاني، فهل قرأ قادة الحل والعقد هذا النص المنشور في ربيع الأول من العام الهجري الجاري ؟؟
وتبرز تداعيات استجواب وزير الدفاع عدة حقائق يمكن حصرها على سبيل الجمع لا الكل في الاتي:
أولا : ان الأجهزة الرقابية مقصرة كليا في برمجة قاعدة بيانات متكاملة عن العقود الحكومية والموارد البشرية لها ونسب الإنجاز المتحققة، واليات تدوير الأموال الداخلة الى العراق
والخارجة منه ، والسبب معروف في عدم الوصول الى ما يعرف بالحكومة الالكترونية ، ومعايير الجودة على الرغم من توقيع الحكومة العراقية لعدة اتفاقات بهذا المجال ، فقط لان المتصديين للشأن العام ليس باستطاعتهم إدارة المعرفة بأسلوبها المتحضر المتجدد ، القاطع والمانع والرادع لكل أنماط الفساد واشكاله ، فانتهى البلد الى ما انتهى اليه من فوضى غير خلاقة كما أرادها المحافظون الجدد عام 2003 في احتلال العراق ، فقط لان هناك من يريد ان ينصر المذهب في حرب مفاوضات ايران حول ملفها النووي ،او من ينتصر قوميا ويبشر باستقلاله عن العراق، وهي معضلة تبرير الفساد او السكوت عنه تحت قبة مجلس النواب في دوراته المتلاحقة.
ثانيا : هناك هياكل قانونية وإدارية متعددة الاشكال لتنفيذ متطلبات محاربة الفساد ومنعه وفي ذات الوقت مواجهة الإرهاب باعتبار ان الفساد والإرهاب وجهان لعملة واحدة لكن هذه الهياكل افرغت من محتواها الصحيح خلال حكومتي رئيس الوزراء نوري المالكي وحاول رئيس الوزراء العبادي ان يستنهضها ، لكنه واجه معضلة من نوع اخر بانه جاء من نتاج هذا الواقع المريع للمحاصصة ، فكان مطلوب منه ومن الرئاسات الثلاث ليس الإعلان عن الغاء شكلي لمحاصصة المناصب الوزارية ، بل ان يكون هنالك قرارا وطنيا عن قناعة اكيدة ومطلقة بان سياسات اكثر من عقد مضى كانت خاطئة ، ومطلوب تصحيحها ، ومحاسبة من يقف بالضد من الإصلاح وهكذا هو اعلان هيئة النزاهة في تقريرها نص السنوي عن نسبة تنازلية لعدد أعضاء مجلس النواب الذين افصحوا عن ذمتهم المالية، بما يؤكد للمراقب الحصيف ان محاربة الإصلاح تكمن تحت قبة مجلس النواب وليس خارجه في لعبة المساومات ما بين أحزاب دست السلطة بعد ان اعتادوا على السحت الحرام بعناوين قانونية مختلفة، ربما كان اخر ما اعلن منها مشروع قانون مجلس النواب بامتيازاته التي اغضبت مواقع التواصل الاجتماعي .
ثالثا: تبقى هياكل الدولة الرصينة مثل ديوان الرقابة المالية او هيئة النزاهة ومكاتب المفتشين العموميين بحاجة دائمة الى التحديث والتواصل مع إدارة المعرفة لما ينشر في ادلة العمل لمنظمة الشفافية الدولية او البنك الدولي ومن ابرز هذه الأدلة إدارة المعلومات الاقتصادية في وحدات الاستخبارات المالية لمنع أموال الفساد في تمويل الإرهاب والكشف عن المفسدين والإرهابيين في وقت واحد ربما ليس بالأسلوب الذي تفضل به وزير الدفاع في جلسة استجوابه لكن ضمن سياق منظور هذا النموذج المتحدي للفاسدين في اعلى دست السلطة ، وهي مهمة ليست سهلة، وتحتاج الى دعم تحالف مدني واسع يشكل نموذجه المناسب لذات الاليات لتحليل الاستخبارات المالية بالتعاقد مع هذه الأجهزة وفقا لمنطوق اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد ، عندها ستكون هناك حكومة ظل حقيقية تطرح تصوراتها على الرئاسات الثلاث بمعلومات موثقة ، واذا حاولنا مراجعة ما ينشر من تقارير باللغة الإنكليزية عن الفساد والإرهاب في العراق، سنكون امام أطنان من الأوراق التي ربما لم تأخذ حصتها من اهتمام هذه الأجهزة الرقابية فقط لان ترجمتها ليست ضمن موازنتها السنوية!!!!
رابعا : يلاحظ دائما ثمة تأكيد على التربية السليمة في الاسرة والمساجد على احترام المنظومة القيمية القائمة على النزاهة والامانة ونبذ المفسدين ،والتركيز على الموظفين الذين يتصفون بالنزاهة والامانة ( القدوة الحسنة ) ليكونوا مثال للموظفين الأخرين، لكن الأكيد ان هذه الدعوات تتطلب ان يبدأ أصحاب الشأن من ذاتهم في الرئاسات الثلاث في إعادة تقويم تربيتهم وفق ما يطرح في خطبة الجمعة على منصة الصحن الحسيني الشريف او في بيانان المرجع السيستاني ومنها ما تمت الإشارة اليه ، ناهيك عن الكثير مما يمكن ان يقال عن فرض سيادة القانون عندما يلتزم أصحاب المواكب الرئاسية باشارة رجل المرور ، عندها يمكن ان نطلب من المواطن العادي مثل ذات الالتزام والعكس صحيح .