مجتمع بسيط مثل الاهوار ، هو عالم من دون تعقيد ، ولأنه لا يحتاج الى إداريات معقدة مثل مجتمع المدينة فلم تولد لديهم هيبة وخوف من مدير دائرة أو مسؤول حزبي أو مفوض الشرطة ، وربما المدارس التي في القرى هي من كانت تمثل صورة الحكومة ،ولكنها الحكومة الطيبة والمثقفة والتي تعلم ابناءهم اقصى ما يتمنوه وهو قراءة رسائل ابناءهم من الجنود يوم ارعبهم مشحوف رجال دائرة النفوس الذي بدء بجرد البالغين وتبليغ التجانيد بأسمائهم ، وربما هناك بعض سنوات القحط من اجبرت ابناءهم ليتطوعوا ليكونوا جنودا ، وهم قلة ، حتى ان احد المعلمين من اهالي القرنة كان معلما معنا وخدم الاحتياط كاتبا في تجنيد القضاء اتى اليه ذات يوم احد الشباب مصاب بالذهول ويلتفت الى الجدران وصور البكر التي تملأها ويرمقها بخوف وحذر وسألته من اين انت :قال له من قرية ام كذله بهور الصحين ، وعرفت أنه يزور المدينة لأول مرة في حياته ليفاجئ بصورة رئيس الجمهورية المسؤول الاول عن البشر في هذه البلاد ، وشعر بأن عيون الرئيس تنظر اليه وتراقبه الى اي غرفة يرسلوه اليها ليختم ورقة او يبصم بإبهامه وهو يتساءل عن سر هذا الحبر الازرق الذي يصبغون بها اصابعه.
تذكرت رواية جورج اوريل 1984، وفيها الرفيق الذي يراقب الجميع في كل مكان حتى في غرف نوم لحظة المطارحة الغرامية بين أثنين .
لهذا كنت كلما اعيد قراءة الرواية واتذكر حكاية هذا الشاب الذي نزل الى المدينة واصطدم بحالة ذكر من الرفيق الكبير والمسؤول الاول ،اشعر ببدايات زحف الدولة بسلطتها صوب هذه المجتمعات البدائية والفطرية التي لم تتعود على شكل القيود والاضابير والاوامر منذ زمن الاسكندر وحتى قيام بعض وحدات الجيش بنصب مدافعها النمساوية عند اقرب بر لقرية ام شعثه ، وفجأة يقفز امامي هذا المقطع من راوية جورج أوريل :
(( إذ لم يكن من المرغوب فيه أن يكون لدى عامة الشعب وعي سياسي قوي ، فكل ما هو مطلوب منهم وطنية بدائية يمكن اللجوء إليها حينما يستلزم الأمر))
لا أدري اين انتهى الامر بهذا الشاب الذي اتى مع بدائيته الجميلة وبساطة روحه ونقاءها من قرية منسية في اعماق الهور الى غبار فرمانات السلاطين والقياصرة وامراء الافواج.
وربما علمته الجندية أن عيون الصورة التي شاهدها معلقة على حيطان التجنيد وتراقبه بحذر وصرامة ، هذا ذات العيون التي شاهدها بعد ذلك في لحظة توقيع ضابط التجنيد دفتر الخدمة او المصور الذي اجلسه على صفيحة دهن ليلتقط له صورة شمسية لذلك الدفتر او العريف الذي استلمه اول يوم له في ساحة العرضات في مركز تدريب الشعيبة ، أو ملك الموت الذي استقبله ليأخذه الى فردوس السماء يوم سجلته الحرب اول شهداء المعدان في هذه الحرب التي أتى اليها بصدفة ومات فيها بصدفة ايضا……!