أول إصدار عربي لباحث عراقي
استجابة لقرار الأمم المتحدة باعتماد 2019 عاما للغات الشعوب الأصيلة
لا جدال في أن اللغة تعد أهم إختراعات الإنسان عامة، بها تميز عن الحيوان، وبها سجل ووثق ونقل وتبادل المعرفة، وتفاهم وأثار الوجدان حبا، وتغزل وتغنى ومدح ورثى حد أن بكى وأبكى، بل أن توحيد الله يؤمن بأن كل شيء كان بكلمة الخالق حين قال: كن، فكان.
وتعددت لغات الإنسان التي وثقتها الجهات المعنية فوصل عددها إلى حوالي 7000 لغة. وصنفت هذه اللغات إلى لغات عالمية بحسب شيوعها إنتصارا أو قدرة في الإبتكار، وأخرى محلية محدودة، وثالثة خصوصية تحددت بأفرادها وصار بقاؤها مرتهنا ببقاء أتباعها الذين يتحدثون بها، وهذه هي المهددة بخطر الإنقراض.
ولأهمية اللغة عامة كونها إرثا إنسانيا متميزا، وأن وجودها دليل وجود إنساني، صار الإهتمام بها كبيرا، وتوجهت الكثير من المؤسسات والجامعات لدراسة وتوثيق هذه اللغات والمحافظة على تدوينها. وقامت منظمة اليونسكو بأدوار مهمة في هذا الخصوص وأنشأت أطلس اللغات المهددة بالإنقراض ليتم تدوين جميع اللغات فيه بحسب تصنيفات خاصة.
واليوم تأتي مبادرة كبيرة وقيّمة من منظمة الأمم المتحدة لإعتماد عام 2019 عاما دوليا للغات الشعوب الأصلية التي مكنتها قدراتها من إبتكار لغتها الخاصة في زمن، لكن العصر الراهن لم يمكنها من المحافظة عليها لأسباب عديدة تتعلق بالعولمة أو الإنحسار أو غلبة اللغات الأخرى. وتأتي هذه المبادرة، التي أوكلت مهمتها لمنظمة اليونسكو، من أجل التنبيه للحفاظ على لغات السكان الأصليين في بلدان وجودهم والعمل على رعايتها وتنشيطها. وفي ضوء هذه الدعوة فإن الأمم المتحدة أوصت الدول والمنظمات والجهات الأكاديمية بضرورة دعم السكان الأصليين في المحافظة على لغاتهم وتشجيع النشاطات التي من شأنها ديمومتها وتعليمها للنشء الجديد وتوثيق كل ما يتعلق بها وبتراثها.
وفي البلدان العربية هنالك عدد من لغات الشعوب الأصلية التي بعضها معرض لخطر الإنقراض. وما يؤسف له حقا أنه لم يتم التنبه لموضوعها والإهتمام بها على الرغم من الإهتمام الدولي المتزايد بهذا الموضوع.
واللغة المندائية، وهي لغة الصابئة المندائيين في العراق، تعد من أكثر اللغات المعرّضة لخطر الإنقراض، ذلك أن المتحدثين فيها لا يتجاوز عددهم اليوم 100 فردا، كما أن تحدثها داخل الأسرة قد توقف منذ عشرات السنين. وما حافظ على بقائها أنها مازالت تستخدم في طقوسهم الدينية وتنسخ بها كتبهم الدينية. والإهتمام بها ليس من أجل المندائيين أنفسهم وحسب، بل لأنها لغة العراقيين الأوائل وبعض إرثهم، وقد ظلت تحفظ الصيغ القواعدية وأساليب بناء ولفظ وإشتقاقات الكلمات التي ما تزال ميزة العامية العراقية لحد اليوم وستبقى.
كان تسجيلها في أطلس اليونسكو للغات المهددة بالإنقراض عام 2006 بسعي شخصي منا، كما قمنا بالكثير من النشاطات مساهمة في الحفاظ عليها تمثلت بوضع أول كتاب تعليمي منهجي لها، ثم وضع قرص تعليمي للنطق والتلفظ، وإصدار قاموس مندائي عربي وبالعكس، وقاموس آخر مندائي إنكليزي وبالعكس، وعملنا على تصميم أكثر من حرف طباعي لغرض تسهيل عملية الطبع باستخدام الكومبيوتر، وكذلك إبراز الخط المندائي بأعمال فنية مشابهة لأعمال الخط العربي، وكتابة العديد من المقالات بخصوصها ومطالبة الجهات الدولية والعراقية للإهتمام بها. كما تابعت، مثل منقب الآثار، مئات المفردات التي مازالت شائعة في اللسان العراقي وثبـّتُ عائديتها للغة المندائية كفرع نقي من الآرامية الشرقية وعملت على إصدار كل ذلك بهذا الكتاب الموسوم “معجم المفردات المندائية في العامية العراقية”.
فمن من العراقيين لا يقول “أكو، ماكو”؟ بل إن هاتين الكلمتين صارتا سمة اللهجة العراقية. والثابت قاموسيا أن مرجعيتهما من اللغة المندائية، لغة العراقيين القدماء التي ظل الصابئة المندائيون محافظين عليها وإلى اليوم. وهكذا حينما نقرأ ونعرف معاني ألفاظ مثل (جـا، أبو خريان، دللول..) ومئات المفردات التي تم تثبيت طريقة ورودها في العامية العراقية ومن ثم لفظها بالمندائية ومعناها العربي والإنكليزي وشرح عائديتها وكيفية ورودها أصلا في الإستخدام مع الأمثلة وبشكل أكاديمي. كما تمت الإشارة إلى الأمثال والأشعار والأغاني القديمة التي ورد فيها ذكر هذه المفردات تعزيزا وتشويقا.
يأتي هذا الكتاب، الذي تبنت إصداره مؤسسة مسارات للتنمية الثقافية والإعلامية ودار الرافدين للطباعة والنشر، ليقدم عرضا للغات العراقيين والمندائية على وجه الخصوص وتأصيل حوالي 1250 مفردة، ليكون أول إصدار عربي عراقي متوافق مع قرار الأمم المتحدة ومستجيب لدعوتها أملا بأن يتحقق إهتمام وتجاوب من لدن الجهات المسؤولة.