إن قصتي المثيرة مع “ليا”صديقة الطفولة.. تشبه في غرابتها، إلى حد كبير قصتي مع دياس وسايلا.. أبناء بلدتي الصغيرة.. فالأولى قررت أن تأخذ من الصليب طريقها.. والثاني فضل الرحيل حتى لا يبقى في المدينة أسيرا.. بينما الثالث قرر أن يصبح وزيرا.. اختار لنفسه أن يكون على الديار ذئبا أمينا.. هكذا غير التبجيل من ملامح “ليا”حتى أصبحت إنسانا.. وغيرت الغربة دياس حتى أصبح شاعرا مهووسا.. بينما غيرت الماركات العالمية ملامح سايلا كثيرا.. حتى كادت المرايا ألا تعرفه.. وكاد الحياء أن يسقط على الأرض انحناء..هي قصص من نبع الحياة.. عبرة لأولي الألباب.. تحمل في طياتها ما لم يكن يوما في الحسبان.. مواقف تستدعي التأمل كثيرا.. تدخل ضمن إعادة ترتيب الأوراق..
فمثل هذا وتلك وذاك.. كان علي أن آخذ بدوري أصعب قرار.. أن أبقى في البلاد.. وألا أرحل.. المصير محسوم…والطريق مسدود…وحلم التغيير مستحيل.. خطوط كفك سيدتي تفوح منها رائحة الموت.. هكذا قالت لي “توغا” قارئة الفنجان.. الوجه الآخر لمملكة الجنون.. السلطة السابعة الغير معلنة.. كانت تقطن بشارع “النوارس” رقم بيتها ثلاثة عشر.. كان يقصدها الكبير والصغير.. الفقير والأمير كلما ساءت أحوال البلاد والعباد.. وكل من اختلطت عليه أمور الحياة.. المصائب عديدة و”توغا” العرافة في الحي فريدة.. كان يقصدها العامة في واضحة النهار.. يستفسر عن حلم ضائع.. أو زوج خائن.. عن عروس حائر.. أو حظ غائب.. يقصدها البئيس المظلوم لتحميه من عين الحاقد.. أو لتجلب له الحظ الوافر.. ويقصدها الحالم لينال حظه من “اللوطو” أو تذهب ابنته إلى تورينو.. تتحقق بذلك أحلام الأب المؤجلة.. بينما كان يعودها الأعيان في حلكة الليل.. كي تفتي في أمور البلاد.. أو لترسو عليه صفقة العمر.. فنجان “توغا” وفي لا يقهر.. لا يخلف الميعاد.. حتى ولو كذبت كل الأجرام.. قدرتها على فك الألغاز تفوق كل التوقعات.. فتبا لمن يسيئ لذكر العرافات.. فسمعتها من سمعة البلاد.. تكاد تكون من المقدسات.. أو رئيسة الوزراء.. نظرتها للحياة ثاقبة تنير طريق الرؤساء.. تأثير سحرها عليهم.. يبعثر كل الأوراق.. يزرع السعادة ويذهب اليأس والبأس.. يقرب البعيد دون سواه.. ويبعد الحبيب عن الحبيب إذا شاء.. يرفع شأن من يشاء.. يذلل بدون عناء.. كأي سياسي محنك..”توغا” استطاعت أن تقلت من أداء صكوك الغفران.. وكيف لا.. وهي قادرة على خلق التوازنات.. توقعاتها، تحمل أجوبة يعجز العقل والمقدس أن يحملها..
فبرغم الذكاء الخارق.. وما ذكرناه في السابق.. تبقى قارئة الفنجان، أسوأ مثال لعدم العرفان.. وبرغم جودها وكرمها.. جنودها وبخورها.. يبقى مثال “توغا” شاهد على الظلم في بلادها..
تحدثنا الأحاديث عن جنات النعيم.. وتأجيل الشيء الجميل.. لليوم الموعود.. تحذرنا من العرافات.. حتى ولو كانت صادقة.. ومن الراقصات رغم رشاقة جسدها.. والبهجة التي تضفيها.. من بائعات الهوى.. تبا لهم.. كانوا من الجاحدين..
فالأولى معتكفة في معبدها.. تصون السر وتستقبل الثريا.. تصغي لآهاتها.. بلسما لجروحها.. تستعين بكائنات لا يمكن أن يراها سواها.. بتنبؤات تحاول إسعاد الرعايا.. ليتها كانت.. عن الحكومات بديلا..
الموسيقى ضجيج.. والرقص جنون.. وطاعة السلطان واجبة.. هكذا صاح فقيه حينا.. وهو واثق.. صدقته جدتي وتبعه المريدون.. وهل يخلو فرح.. أو قرح.. أو مرح.. من الطلعة يا هذا ؟.. هزات جسدها الموصوم.. تخطف أنظار الحاضرين.. يتأسف لعدم لقائها كل الغائبين.. تحت نقطة الضوء.. ونغمات قرع الطبل.. تأخذ الراقصة مكانها.. بين الأعيان.. تأخذ ثأرها من ابنة الفقيه.. وحريم السلطان.. آه لو كن مكانها ǃ.. فالسماء عالية.. يسهل النظر إليها.. والأرض عارية.. يسهل الرقص عليها.. تبعث هضابها الممتلئة رسائل قوية.. فويل للمنافقين.. ارقصوا.. لا تتوقفوا.. ارقصوا.. إياكم والندم..
بعيدا عن كل الأنظار.. وبحثا عن حور العين.. بل بحثا عن التوازن المفقود.. هناك لص تائه يتسلل نحو جنة الفردوس.. مغرر به نحو السرير الأحمر..
إنها مملكة المفارقات السبع.. حيث لا شيء فيها متحرك.. لا شيء فيها ثابت.. سجل عندك.. فالسلطة والجاه لا تستقيم إلا بجوار اللطيفات.. والسعادة لا تتحقق إلا بين أحضان العاهرات.. وبهاء الأعراس لا يكتمل إلا بتشريف الراقصات.. والبال لا يهدأ إلا بمزاعم العرافات.. هي أعراس ومناسبات.. للتباهي والمصالحة مع الذات.. هي مملكة الجنون.. حيث ملتقى المقدس والمدنس.. ملتقى الثلاثي المحرم.. فالراقصات المنبوذات.. يصبحن في الأفراح مقدسات.. والمصونات العفيفات.. يصبحن في الأعراس عاريات كاسيات.. هكذا يكون الإنسان معجزة التناقضات.. فسبحان مغير الوضعيات..وسبحان مقرب المسافات..