23 ديسمبر، 2024 11:35 ص

معايير نشأة المدن الكردية

معايير نشأة المدن الكردية

القسم الأول
تعد دراسات المدن من الدراسات الهامة بوصفها وحدة حضارية وفن من البحث متعدد المسالك الصور، مشتبك العلاقة مع حقول عالمية اخرى. لذلك أخذت الكثير من الجامعات الاوربية والاميركية وحتى العربية على عاتقها تخصيص اقسام علمية ومواد دراسية تعرف بأقسام التمدن (Urbanization) تتناول دراسات المدن وتخطيطاتها ومشاكلها الاجتماعية والسكانية والاقتصادية.
لقد برز من العلماء الغربيين الدارسين لهذا الفن رجال كبار ابتداءً من القرن التاسع عشر درسوا هذه الظاهرة، ظاهرة المدينة والتمدين التي يمكن ان تعتبر بحق ارقى انجاز وصله الانسان في استقراره على الارض، فالمدينة وليدة الحضارة أذ أنها في الواقع هي الحضارة، ومن هؤلاء العلماء: ماكس ويبر Weber وممفورد L.Mumford، وكينث بولدنغ KE. Bolding ، وويبر A. Webber، وآدامز R.Mac Adams، وأخيراً توينبي Toynbee.
وبدأت المؤتمرات منذ الخمسينات تعقد لهذا البحث الذي أخذ يتحول الى تخصص واسع يجمع علم الاجتماع والجغرافيا الى التاريخ الى ظاهرة التمدين الى الطوبوغرافيا. وتدخل فيه الدراسات الوصفية المتعلقة بالظروف الاجتماعية والبيئية كما تدخل الدراسات التركيبية الجامعة بين المنظور السياسي والاقتصادي والايكولوجي (الأثاري) والديني والعسكري والثقافي.

مفهوم المدينة والدراسات المقارنة حوله
كان المفهوم السائد عن المدينة على أنها مفهوم استاتيكى جامد لا ديناميكى متحرك، لذلك كان العلماء يحاولون استخراج شروط وملامح ظهور المدنية وتطورها بشكل عام ليصلوا منها إلى بعض القوانين في هذا المجال.
ومع ان الحضارة الإنسانية بعامة هي حضارة مدن قبل كل شيء ، ومع إن المدن وحدات اجتماعية متماسكة قد لا تتطور بسرعة، إلا أنها دون شك تتغير وتتطور مع الأيام محتفظة على الدوام بلمحات واضحة من ماضيها ومن ملامحها العمرانية وذلك تبعاً لتطورات الجماعة الإنسانية التي تؤهلها والايديولوجيا التي تدين بها الجماعة.
وما يزال حقل الدراسات المقارنة للتمدن في الوقت الراهن حقلاً حديثاً ومعقداً، فهو لم يبلغ من العمر سوى عدد من السنوات، وانه معقد لما يحتاج اليه الباحث من خلفيات تاريخية عديدة وواسعة لاجراء مقارنات تمدنية بين مجموعة عينات من المدن من النواحي الوصفية والتركيبية والعمرانية في منطقة جغرافية واسعة ايضاً.
وقد أسهم الباحثون الاجتماعيون الاوروبيون والامريكيون في هذا الحقل مساهمة متميزة، وانقسموا في توجهاتهم ونظرياتهم في هذه الدراسات المقارنة الى اتجاهين:
الاتجاه الذي يضع الجوانب الوصفية للمدن والظروف الخارجية كأساس لعقد المقارنة بين العينات والتركيز في هذا الاتجاه يكون على التنظيمات الاجتماعية، ولم يجهد المسلمون أنفسهم لهذا الاتجاه أنفسهم في تتبع الامتدادات التاريخية لمجموعة المدن المنوي دراستها، كما أنهم لم يحاولوا الولوج الى داخل المدينة الحديثة لتشخيص الصعوبات والأزمات التي تواجهها كالأزمات والتوترات الاجتماعية والصعوبات الاقتصادية.ينظر: عبدالجبار ناجي: دراسات في تاريخ المدن العربية الإسلامية، جامعة البصرة، 1986، ص 10.
الاتجاه الذي يعرف بالدراسات البنيوية Structural للتمدن، وهو اتجاه أخذ بنظر الاعتبار مجمل العوامل المحيطية والبيئية للمدينة مع الاخذ بنظر الاعتبار العوامل الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. وممثلوا هذا الاتجاه لم يقفوا منعزلين عما تشهده المدن من متغيرات وحوادث، فما يحدث في هذه المدينة مثلاً من توترات واضطرابات لابد من ربطها بالتطورات الاجتماعية والاقتصادية لتلك المدينة، فلماذا لم تقع مثل هذه التغيرات في مدينة اخرى ضمن المجموعة المنوي دراستها ، لذلك خضعت الدراسات المقارنة للمدن كغيرها من الدراسات الانسانية الى تفسيرات وتحليلات عديدة تتجه الى ابراز تأثر أحد العوامل دون الاخر من العوامل التطورية واعتباره العامل الاساس. فقد استند آدامز Adams في دراساته الى ابراز العامل الجيوبولتيكي ، بينما ذهب المؤرخ والباحث الاجتماعي الفرنسي فوستال دي كولانج Fostal de Coulanges الى: ان العامل الديني يعد رابطاً اساسياً بين السكان في أي مدينة، وابتدأ بسرد الأدلة على ذلك بقوله: ” ان كلمة Urbs التي تقصد بها المكان الذي يجتمع فيه السكان ومنه جاءت كلمة Uraban بمعنى مدني أو تمدني، هي كلمة تشير الى مكان مقدس قبل كل شيء”. Ciden Sjohery: Theory and Research in Urban Sociology in the study of urbanization (USA) 1968. PP.157. (النظرية والبحث في علم الاجتماع الحضري – دراسة في التحضر، الولايات المتحدة، 1968، ص157.
ومع ان المؤرخ البريطاني ارنولد توينبي(1889-1975م) يؤيد اثر العامل الديني في ظهور المدن قبل فترة حركة التصنيع (الثورة الصناعية) بقوله: بأن كل مدينة ظهرت قبل حوالي مائتي سنة كانت مدينة ذات اتجاه ديني ضمن الاتجاهات الاخرى، ولكنه مع ذلك يوضح في مكان آخر من كتابه بأنه من النادر أن يجد المرء مدينة في أي وقت أو مكان هي مدينة تجارية فقط أو مدينة سياسية فقط او مدينة عسكرية فقط أو مدينة دينية فقط.، واعتمد فيها على رائد الدراسات الاجتماعية الفرنسي نوما دينيس فوستل دي كولانجز(Fustel de cuulanges (1830 -1889م) مؤلف كتاب تاريخ المؤسسات السياسية في فرنسا القديمة ، والذي أثر في عدة أجيال من المؤرخين حتى مارك بلوخ. مدير مدرسة إيكول نورمال العليا وحامل أول كرسي في تاريخ العصور الوسطى في جامعة السوربون ، أخذ التأريخ الفرنسي إلى مسار علمي. وعلى الرغم من أن الزمن عليها في ضوء الأبحاث الحديثة، لا يزال عمل نوما دينيس فوستل دي كولانجز Fustel de Coulanges ثمينًا بجودته الجوهرية ولكن قبل كل شيء من خلال جهود المؤلف لمحاولة إعادة تشكيل مشاعر واحتياجات رجال الماضي بأكبر قدر ممكن من الدقة، لا سيما فيما يتعلق بتفسير الدور الأساسي للأديان في هيكلة المجتمعات.لذلك اختار عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركهايم(1885 – 1917م) أن يخصص أطروحة الدكتوراه لعمل فوستل دي كولانجز .
. في يؤمن توينبي بأن العقائد الدينية تلعب دورا في مجريات التاريخ ويذهب إلى حد القول أن الدين يكمن وراء كل الحضارات الإنسانية القائمة، وأن الحضارات تولدت من رحم الأديان، فالحضارتان المسيحية الغربية والأرثوذكسية تولدت عن المسيحية، والحضارتان الإيرانية والعربية تولدتا عن الإسلام، وحضارات الشرق الأدنى تولدت عن البوذية، والحضارة الهندية تولدت عن الهندوسية، وعلى هذا يقترح توينبي أن يدرس التاريخ كوحدة واحدة شاملة وأن يبعد التاريخ الاقتصادي والسياسي إلى المرتبة التالية من مراتب الدراسة التاريخية، وأن يجعل التاريخ الديني في المقام الأول لأن الدين حسب تعبيره هو “ الأمر الخطير الذي يهم الجنس البشري”.
ويفترض توينبي أن الأديان العالمية الكبرى وهي: المسيحية والإسلام والبوذية والهندوكية ترتبط فيما بينها ارتباطا وثيقا، وهذا الارتباط يبدو واضحا في إيمانهما بوجود إله مخلص يضحي بذاته من أجل البشر، وفي تشابه تجربتهما التاريخية، فتأثير المسيحية الديني والسياسي لم يتضح إلا بعد مضي ثلاثة قرون على رسالة المسيح( عليه السلام) مع إيمان الإمبراطور قسطنطين للمسيحية، وبالمثل البوذية لم يصبح لها نفوذ إلا بعد اعتناق الأمبراطور أشوكا لها بعد قرنين من وفاة بوذا، أما الإٍسلام فقد بدأ تأثيره يظهر في حياة الرسول ( صلى الله عليه وسلم)، ومن جانب أخر يحمل الإسلام والهندوكية نظرة أكثر عمقا للإله..
إن الإسلام – كما يقول توينبي- قد أعاد توكيد وحدانية الله في مقابل تخلي المسيحية الواضح عن هذه الحقيقة، ويعتقد توينبي قوة الإسلام الذاتية تجسدت في ذلك المبدأ الذي حمله الرسول صلوات الله وسلامه عليه وهو “إسلام النفس لله وحده” وأنه لم ينتشر بفعل “ القوة المادية ” وإنما بفعل خصائصه الذاتية، لكنه يدعي في المقابل أنه كان يمكن أن يصبح أسمى روحيا مما هو عليه لولا الهجرة وما استتبعها من تأسيس دولة المدينة التي تمثل بالنسبة له بداية الانحلال، وهذا الرأي يستغرب صدوره عن مؤرخ مثله حيث يبدو فيه تأثره الواضح بالعقيدة المسيحية ومحاكمته الإسلام على ضوئها، وهو لا يخفي ذلك وإنما يصرح أن عقائده هي التي تتولى توجيهه وإرشاده، ويأخذ عليه بعض الدارسين أن كتابه (دراسة للتاريخ) مليء بالتشبيهات والاقتباسات من العهدين القديم والجديد، وأن التعاليم الدينية لها وزنها الخاص لديه. ينظر: فاطمة حافظ، الحضارات والأديان لدى أرنولد توينبي، في 3/9/2019م، موقع إسلام أون لاين.
ومن جهة أخرى فقد سبق المؤرخ وعالم الاجتماع الإسلامي ابن خلدون(ت808هـ/ 1405م)، جميع العلماء الاوروبيين في ابراز العامل السياسي والديني في نشوء المدن والحضارات، وعن تحليل ابن خلدون لدور الدين، فإنه يشرحه بقوله عن العرب: “… وأنهم لخلق التوحش الذي فيهم أصعب الأمم انقيادا بعضهم لبعض، والأنفة وبُعد الهمة والمنافسة في الرئاسة، فقلَّ ما تجتمع أهواؤهم. فإذا كان الدين بالنبوة أو الولاية كان الوازع لهم من أنفسهم وذهب خُلُق الكبر والمنافسة منهم، فسهُل انقيادهم واجتماعهم وذلك بما يشملهم من الدين المُذهب للغلظة والأنفة الوازع عن التحاسد والتنافس”. ينظر: مقدمة ابن خلدون، ص 166.
ويتطرق ابن خلدون الى أن الدعوة الدينية تزيدُ الدولة قوة فوق قوة العصبية التي كانت لها، والسبب في ذلك:
” أن الصبغة الدينية تذهب بالتنافس والتحاسد الذي في أهل العصبية وتفرِّد الوجهة إلى الحق، فإذا حصل لهم الاستبصار في أمرهم لم يقف لهم شيء لأن الوجهة واحدة والمطلوب متساوٍ عندهم، وهم مستميتون عليه، وأهل الدولة التي هم طالبوها أي الدولة التي يواجهونها، وإن كانوا أضعافهم فأغراضهم متباينة بالباطل، وتخاذلهم لتقية الموت حاصل، فلا يقاومونهم وإن كانوا أكثر منهم بل يغلبون عليهم ويعالجهم الفناء بما فيهم من الترف والذل”. ينظر ابن خلدون، المقدمة، ص174.