تُعد الانتخابات البرلمانية القادمة في العراق محطة مفصلية، ليس فقط لتحديد مسار البلاد السياسي، بل لكونها تأتي في ظل تحولات جيوسياسية عميقة شهدتها وما تزال تشهدها منطقة المشرق العربي بتسارع وينذر بمواجهات وحروب مستقبلية لا مفر منها وبعد تراجع النفوذ الإيراني وانهيار ما يُسمى بــ “الهلال الشيعي” حيث يبقى العراق الملاذ الأخير الذي تسعى إيران بكل الطرق والوسائل المتاحة لها , الخافية والعلنية منها لغرض التشبث والحفاظ عليه كمصدر مهم للنفوذ السياسي والاقتصادي والاجتماعي وليس كحديقة خلفية لها ولكن ما يزال ضمن مشروعها في الهيمنة على المنطقة ، ومستغلة الأحزاب الإسلامية والفصائل الموالية لها ضمن “الاطار التنسيقي ” وائتلاف إدارة الدولة والعمل على مساعدتها لتثبيت هيمنتها من خلال إيجاد تشريعات وقوانين حكومية ومن خلال البرلمان لتكريس هذا الارتباط الوثيق وادامته ومواجهة التدخلات الخارجية لفرض أجندة معينة كما يحصل حاليا من ادراج قانون “الحشد الشعبي” والتصويت عليه والذي ما يزال يراوح مكانه في البرلمان . ولكن هذه الطموحات الإيرانية كذلك ما تزال تصطدم برفض شعبي متزايد، حيث تُظهر استطلاعات منظمات المجتمع المدني وكذلك من خلال ما يكتبه الراي العام من منشورات و آراء في مختلف مواقع التواصل الاجتماعي , حيث يلاحظ المتابع بأن هناك ميلاً واضحاً لدى الشارع الشيعي نحو مقاطعة الانتخابات، نتيجة الإحباط العميق واليأس من الطبقة السياسية التي تُعيد إنتاج نفسها بأساليب خادعة وملتوية .يُعزى هذا الإحباط إلى استمرار الفساد المالي والإداري، واستمرار نهج المحاصصة الحزبية والعائلية في ادارة الدولة ، التي تجلت مؤخراً في فضيحة تعيينات (قائمة السفراء) التي هزت المواطن والرأي العام. إضافة إلى ذلك، ما يزال يعاني العراقيون من نقص حاد في كافة الخدمات العامة، من كهرباء وماء وصحة وإيجاد الوظائف المناسبة لجحافل الخريجين كل سنة، فضلاً عن تراجع زخم الاحتجاجات الشعبية نتيجة الاقتناع بأن التأثيرات الخارجية والمال السياسي هما المحركان الأساسيان للعملية الانتخابية. وبالإضافة إلى شبهات التزوير، التي تتكرر مع كل استحقاق انتخابي، تزيد من نفور الجمهور من النظام السياسي برمته، الذي يُنظر إليه كآلة لتكريس الفشل والفساد. ومع ذلك، يبقى هناك قطاع من الجماهير، غالباً من الفقراء وغير المتعلمين، يتمسك بالنظام الحالي رغم عيوبه الكارثية. هذه الشريحة، التي تُشكل قاعدة انتخابية مهمة، ترى في المحاصصة السياسية ضماناً للحفاظ على الهوية المذهبية وتسهيل الشعائر الدينية دون قيود. هذه الثغرة تُستغل ببراعة منقطعة النظير من قبل كافة أحزاب الإطار التنسيقي، التي تلعب على وتر العاطفة الدينية لضمان أصوات هؤلاء الناخبين، مستخدمة رموزاً دينية مثل السيد “السيستاني” لتضليل الجمهور وتعزيز نفوذها في الانتخابات , ومن هذا المنطلق وفي هذا السياق رأينا كيف سارعت المرجعية الشيعية بالنجف الى الانتباه المبكر لهذا الاستغلال العاطفي وبإصدار بيان واضح وصريح لا لبس فيها لقطع الطريق على هذه الأحزاب من استغلال اسم المرجعية مفاده ما نصه حرفيا :
بيان مكتب سماحة السيد السيستاني (دام ظله) حول نشر صوره في الأماكن العامة.
٣–آب -٢٠٢٥
بسم الله الرحمن الرحيم
لوحظ أن بعض الجهات السياسية والخدمية تقوم بوضع صور سماحة السيد (دام ظله) على لافتاتها وملصقاتها التي ترفعها في الأماكن العامة ولا سيما في طريق المشاية لزيارة الإمام الحسين (عليه السلام). وإذ نؤكد مرة أخرى على رفض هذا التصرف نرجو من الجميع الاجتناب عن مثله ونطالب الجهات المعنية باتخاذ الإجراء المناسب بهذا الصدد.
وفي زمن تُستباح فيه المقدسات وتُستغل الرموز الدينية لخدمة أجندات سياسية ضيقة، تبرز محاولات أحزاب الإطار التنسيقي وكتلها الانتخابية كنموذج صارخ للانحطاط السياسي. هذه الأحزاب، التي لطالما ادّعت تمثيل الشارع الشيعي و”حماية” مصالحه، لم تجد حرجاً في استغلال اسم وصورة المرجع الديني “السيستاني”، في محاولة مخادعة لتسويق مرشحيها في الانتخابات البرلمانية القادمة. هذا السلوك ليس مجرد انتهاك لقوانين المفوضية العليا المستقلة ولكن للأخلاقيات السياسية، بل هو طعنة في قلب الثقة التي يضعها الملايين في المرجعية الدينية، واستغلال سافر لعواطف الفقراء والمهمشين الذين يرون في السيد “السيستاني” رمزاً للعدالة والنزاهة.
ففي الأسابيع الأخيرة، انتشرت في شوارع المدن والنواحي والأقضية العراقية، وخاصة في المحافظات الجنوبية، لافتات وملصقات انتخابية تحمل صورة السيد “السيستاني” إلى جانب شعارات دعائية لمرشحي أحزاب الإطار التنسيقي. هذه الملصقات، التي تُرفع تحت ذريعة “التأييد الشعبي”، ليست سوى محاولة مكشوفة لربط مرشحي الإطار بالمرجعية الدينية، وفي محاولة لتضليل الناخبين واستغلال ولائهم الديني لتحقيق مكاسب سياسية. هذه الخطوة ليست جديدة، فقد سبق لأحزاب الإطار أن لجأت إلى أساليب مماثلة في انتخابات سابقة، ولكنها وحسب متابعتنا عن كثب فان هذه المرة تتجاوز الحدود وبصورة اكثر فجة، خاصة بعد أن أصدر مكتب المرجعية بياناً صريحاً يرفض بشكل قاطع استخدام صوره أو اسمه في أي حملات انتخابية. ومشدداً في الوقت نفسه على أن المرجعية تقف على مسافة واحدة من جميع المرشحين والقوائم الانتخابية. هذا الرفض لم يكن مجرد إجراء إداري، بل رسالة واضحة تكشف زيف ادعاءات هذه الأحزاب التي تحاول ربط نفسها بالمرجعية لكسب أصوات الناخبين، خاصة الفقراء والمهمشين الذين يشكلون قاعدة واسعة من المجتمع وبالأخص الطبقة الفقيرة منهم , وحسب التصريح الرسمي لوزارة التخطيط قبل أيام قد أعلنت عن انخفاض معدل الفقر في العراق من 23% في العام 2022 إلى 17.5% حالياً ولكن هناك من المحللين السياسيين ومن خلال متابعتنا في برامجهم الحوارية على بعض القنوات الإخبارية قد شكك بهذه النسبة وعلى الرغم من أن هذه النسبة تبقى كبيرة مقارنة بحجم السكان هؤلاء الفقراء ، الذين يعانون من ويلات الفساد وسوء الإدارة على مدى عقود، يرون في المرجعية الدينية ملاذاً أخلاقياً وروحياً. هؤلاء، الذين يعيشون على هامش الحياة في ظل انهيار الخدمات الأساسية والبطالة وغياب العدالة الاجتماعية، غالباً ما يتعلقون بصورة “السيستاني” كرمز للأمل والنزاهة. أحزاب الإطار التنسيقي، التي تسيطر على مفاصل الدولة منذ سنوات، تدرك جيداً هذه العاطفة الشعبية، وتستغلها بلا رحمة وكسياط يلهب ظهور هؤلاء الفقراء وبالويل والثبور لهم ومن خلال ربط مرشحيها بصورة “السيستاني”، وتسعى من خلالها جاهدة هذه الأحزاب إلى إيهام الفقراء بأن تصويتهم لها هو تصويت “بمباركة” المرجعية، وهو ما يضمن لها الفوز بأصوات هذه الشريحة الواسعة دون الحاجة إلى تقديم برامج انتخابية حقيقية أو إنجازات ملموسة على ارض الواقع . هذا الاستغلال العاطفي ليس مجرد تكتيك انتخابي، بل هو جريمة أخلاقية تستهدف أضعف شرائح المجتمع. الفقراء، الذين يعانون من نقص الخدمات الصحية والتعليمية، ويعيشون تحت وطأة الفقر المدقع، يتم خداعهم باسم رمز ديني يحترمونه، بينما الأحزاب المستغلة هي نفسها التي ساهمت في تدهور أوضاعهم عبر الفساد وسوء الحوكمة. إن استخدام صورة “السيستاني” ليس سوى محاولة لتغطية الفشل السياسي والاقتصادي لهذه الأحزاب، التي لم تقدم شيئاً يُذكر لتحسين حياة العراقيين، بينما تراكم قادتها الثروات ويعيشون في رفاهية بعيدة عن معاناة الشعب وما يزال يتفنن بعض المرشحين والكتل والأحزاب في استغلال صور اسم المرجعية الدينية الشيعية في النجف بطرق ماكرة وممنهجة لخداع الناخب واستمالته ويمكن لنا أن نضع للرأي العام صورة مقربة لما يجري حاليا ومن خلال متابعتنا قراءتنا ومناقشتها مع أصحاب الشأن ولعلها من أبرز هذه الأساليب تتمثل في الإيحاء المتعمد بأن المرجعية تساندهم ضمنيًا، عبر الاستشهاد بفتاوى أو مواقف سابقة للمرجع السيستاني، مثل دعوته المتكررة لمحاربة الفساد أو الحث على المشاركة في الانتخابات، ولكن ما يتم ملاحظته وبالأخص للمهتمين بهذا الشأن والذي لا ينتبه إليها المواطن ومن خلالها يتم اقتطاعها من سياقها لتُصبغ على برامجهم لونًا دينيًا زائفًا. وعلى سبيل المثال ما طرحه أحد المرشحين في إعلانه بانه “نحن من يحمل راية السيستاني ضد الفاسدين”، يرددونها بلا خجل، رغم أن المرجعية لم تمنح أي طرف صك غفران وتأييد. وكذلك رأينا كيف أصبح يلجأ هؤلاء (المرشحين) إلى تنظيم فعاليات رمزية قرب الحوزة العلمية أو في الأماكن المقدسة الدينية، كالتقاط صور مع علماء دين ثانويين أو توزيع منشورات تحمل شعارات دينية ملتبسة مثل “التصويت واجب شرعي”، ليوحون للناخب البسيط بأن اختيارهم يتماشى مع إرادة مرجعية النجف. بل إن البعض يذهب أبعد، مدعيًا تلقي “توجيهات شفهية” من وكلاء المرجعية، وهي أكاذيب تُروج في الأحياء الشعبية الفقيرة والمعدمة حيث الثقة بالمذهب لا تزال طاغية جدآ عن أي اعتبار آخر. وبالإضافة بأنهم يستخدمون خطابًا عاطفيًا يربط مصير المذهب الشيعي بنجاحهم الانتخابي، مثل “صوتك لنا يقوي الشيعة ويحمي كربلاء والنجف”، محولين الانتخابات إلى معركة طائفية وهمية، بينما يتسترون على سجلهم المليء بالفشل والفساد. هذا الاستغلال السافر يتناقض مع موقف المرجعية الثابت برفض التدخل في السياسة الحزبية، لكنه يظل سلاحًا فعالًا في استهداف الناخب غير المتعلم أو المتأثر بشدة بالرموز الدينية. وهذه التكتيكات الملتوية والمخادعة ليست سوى قناع زائف يرتديه من لا يملك سوى الشعارات ليبيعها للناخب، فيما الحقيقة أن المرجعية نفسها حذرت مرارًا من هذا الابتزاز، داعية الناس إلى اختيار من يخدمهم لا من يتاجر بإيمانهم والتلاعب بالفتاوى والتصريحات الرسمية ومن خلال براعتهم في صناعة تأييد وهمي حيث يلجأ البعض إلى اختلاق روايات عن “لقاءات سرية” مع وكلاء المرجعية أو “رسائل غير معلنة” تدعمهم. يتم تسريب هذه الأكاذيب عبر شبكاتهم في الأسواق والمساجد والحسينيات، مثل “سمعت من فلان أن النجف مع هذا المرشح”، لزرع الثقة في عقول الناخبين السذج دون وجود أي دليل ملموس بالإضافة الى استغلال الرموز البصرية والبوسترات من حيث يوزعون منشورات وملصقات تحمل صور المراجع أو عبارات دينية مثل “طاعة الله في اختيار الصالحين”، مقرونة بأسمائهم بشكل غامض لإيحاء الارتباط. كما يظهرون في مقاطع فيديو وهم يزورون العتبات المقدسة أو يصافحون رجال دين غير معروفين، لخلق صورة ذهنية لدى المواطن تربطهم بالحوزة دون تصريح رسمي التضليل ويستخدمون شبكات من المؤثرين المحليين أو “المندوبين” في الأحياء الشعبية لنشر شائعات مثل “المرجعية غير راضية عن فلان، لكنها تفضلنا”، معتمدين على سرعة انتشار الكلام الشفهي في المجتمعات التقليدية حيث لا يتسنى للناخب التحقق من الحقيقة بالإضافة إلى التظاهر بالتقوى من خلال تبني المرشحون مظاهر الورع المصطنع، ارتداء العمامة أحيانًا أو الحديث بلهجة دينية متشددة في التجمعات الحسينية والتجمعات الشعبية، ليظهروا كـ”أبناء الحوزة”، رغم أن سلوكهم السياسي غالبًا ما يناقض تعاليمها، الفساد أو شراء الأصوات.
أحزاب الإطار التنسيقي، الذي تشكل في أكتوبر 2021 بإدارة ائتلاف الدولة لم يكن في حقيقة الأمر سوى تحالف مصالح يجمع أحزاباً وفصائل مسلحة تسعى للحفاظ على نفوذها السياسي والاقتصادي. هذا التحالف، فشل في تقديم رؤية سياسية واضحة لمعالجة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي يعاني منها العراق. بدلاً من ذلك، يعتمد الإطار على تكتيكات ملتوية مثل استغلال الرموز الدينية لتعويض نقص الشعبية وغياب الإنجازات. واللافت أن هذه الأحزاب، التي تدعي تمثيل الشيعة، تتجاهل حقيقة أن المرجعية نفسها انتقدت مراراً وتكرارا الفساد وسوء الإدارة الذين ساهمت فيها هذه الأحزاب بصورة مؤثرة وفعالة دون غيرها . والمتابع لخطبة الجمعة من العتبة الحسينية المقدسة دائما نرى دعوة صريحة من قبل ممثل “السيستاني” إلى تفادي “شباك المخادعين من الفاشلين والفاسدين”، في إشارة واضحة إلى القوى السياسية التي أخفقت في خدمة الشعب. ورغم هذه التحذيرات، يستمر احزاب الإطار التنسيقي في محاولاته لربط نفسه بالمرجعية، في محاولة لتبييض صفحته الملطخة بالفشل والفساد.
إن استغلال صورة “السيستاني” يهدد بتقويض الثقة في المرجعية الدينية، التي طالما كانت صمام أمان للعراقيين في أحلك الظروف. وعندما ترتبط هذه الرمزية الدينية وصورة بأحزاب فاسدة، التي ساهمت في إفقار الشعب وتدمير البلاد، ولا تستحق صوتاً واحداً حيث هناك تخوف حقيقي بان يصبح الرمز الديني بالمستقبل عرضة للتشكيك، مما قد يؤدي إلى إضعاف هيبة المرجعية ودورها كمؤسسة مستقلة ويتم استغلال هذه الثغرة الخطيرة من قبل المتربصين بالمرجعية وهذا الخطر إذا تجذر أكثر في العقل الجمعي الشيعي قد يتفاقم في ظل انقسامات المجتمع العراقي وتكون عواقبه وخيمة صحيح انه لم يظهر الى السطح ولكن المستقبل القريب قد يكون له راي اخر ، حيث يشعر الكثيرون بالاحباط من التلاعب المستمر بمشاعرهم الدينية، مما قد يدفع إلى مقاطعة الانتخابات وتعزيز هيمنة الأحزاب الفاسدة. إن بيان المرجعية هو دعوة واضحة للشعب العراقي لرفض هذه الأحزاب واختيار مرشحين يمتلكون النزاهة والكفاءة والمقبولية والسمعة الحسنة . الشعب العراقي، وخاصة الفقراء والمهمشين، يستحقون قيادات تعمل لمصلحتهم، لا قيادات تستغل الدين لتغطية فشلها. في انتخابات 2025، على العراقيين أن يقولوا “لا” لهذا التلاعب باسم المرجعية وعليهم ان يعرفوا بان صوتكم هو سلاحكم لتغيير هذا الواقع المزرى. لا تدعوا هذه الأحزاب ومرشحيها تخدعكم باسم المرجعية مرة اخرى . اختاروا الأصلح والأنزه والأكفأ ، وأعدوا الأمل إلى العراق. إن المرجعية نفسها دعاكم إلى ذلك، فهل ستتركون صوته يضيع هباءً ؟ وأن يدركوا أن صوتهم هو سلاحهم الأقوى لتغيير الواقع المرير ويجب عليهم رفض هذه الأحزاب التي تستغل الدين لتغطية فشلها، والتصويت لصالح مرشحين يمتلكون رؤية واضحة لإنقاذ العراق من براثن الفساد والمحاصصة فهل يستمع الشعب العراقي لهذه الدعوة، أم سيقع مرة أخرى في فخ ألاعيب الملتوية والمخادعة لهذه الأحزاب ومرشحيها ؟ الإجابة تكمن في وعي الناخب ومدى حرصه على مستقبل بلاده وعائلته.