18 ديسمبر، 2024 9:20 م

معالم من قصتنا مع التاريخ

معالم من قصتنا مع التاريخ

يبدو أن هناك وشيجة قوية بين التورخة من ناحية، وبين وجود الدولة المركزية، من الناحية الثانية. ومرد ذلك هو احتياج الدولة لجهود التورخة من أجل وجودها وترسيخها، خصوصًا تلك الجهود التي تصبُّ في مصلحة القائمين عليها من سراة القوم ومن أهل الحل والعقد، ناهيك عن دور التورخة التعبوي في أزمنة الأزمات والارتطامات العسكرية. وتأسيسًا على ما تقدَّم، ليس من الغريب أن تغيب التورخة عند العرب على عصر ما قبل الإسلام، وذلك لغياب دولة مركزية بالمعنى الموازي لدولة الساسانيين الفرس، أو لدولة البيزنطيين (بلاد الشام).
ولا نعلم على نحو دقيق فيما إذا كانت كل من دولة المناذرة (عاصمتها الحيرة على نهر الفرات/العراق)، ودولة الغساسنة (عاصمتها بصرى/بلاد الشام) قد اعتمدت مؤرخين لتعزيز سلطة الدولة أو سلطتها التي كانت تحكمها.
لم يكن العرب، على نحو عام، سوى قبائل لا تلتوي حتى ظهور الإسلام الذي أسس دولة (هي الأولى من نوعها) لوت هذه القبائل بمبدأ واحد تحت قيادة الرسول الكريم محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وسلم).
ربما كانت هذه الخطوة الأولى لإطلاق التورخة العربية الحقة. ولكن هذا لا ينفي وجود مؤرخين عرب بدائيين سابقين: وهم “الإخباريون” الذين كانوا “يحكون” لمن يستمع إليهم “أخبار” الأمم والقبائل وشواخصهم في الماضي على سبيل “التسلية”؛ وربما على سبيل استخلاص الدروس والعِبر الأخلاقية، ناهيك عن حقيقة مهمة مفادها أن هؤلاء الإخباريين لم تقتصر “أخبارهم” على قصص العرب في الماضي، إذ إنهم تناولوا كذلك “أخبار” الأمم المجاورة كالأحباش والبيزنطيين والفرس والهنود، إذا ما شاءوا التوسع.
ولم تظهر الحاجة الحقة للتورخة عند العرب إلا مع ظهور الدولة (خصوصًا الراشدة والأموية والعباسية)، مُلقية الضوء على ما مرَّ بــ”الأمة” من أحداث ومتغيرات، خصوصًا بعد وفاة الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم). لذا لم تفلت التواريخ العربية المبكرة من ملاحظة التحزب والانزلاق في مهاويه، ناهيك عن الانحياز إلى هذه الجماعة أو تلك. وقد بقي الأمر كذلك حتى ظهور “الشيوخ” في العصر الوسيط (ومنهم عمالقة من وزن الطبري والمسعودي وابن مخنف واليعقوبي، زيادة على آخرين). زد على ذلك أن التواريخ التي حبَّرها هؤلاء الشيوخ الأفذاذ لم تقتصر على قصة العرب والإسلام، ذلك أن أغلبها كان يبدأ من قصة الخليقة، اعتمادًا على ما ورد في الكتب المقدسة للأديان الثلاث: الإسلام والمسيحية واليهودية.
وهذه، لا ريب، من مزايا هؤلاء العمالقة الذين أرخوا لكل صغيرة وكبيرة مما له معنى وتأثير على الحياة السياسية والدينية حقبة ذاك، تاركين آثارًا تستحق الاحترام والتقدير، آثارًا لا يمكن بدونها للأجيال الحالية الاطلاع على تاريخ بلدانهم وأمتهم بدون الارتجاع إلى الإرث الذي تركه هؤلاء الشيوخ الكبار.
بل، وقد تطورت التورخة العربية في العصر الوسيط ورسخت حتى كان لها مدارسها ومداخلها الخاصة، درجة تحررها من المأثور الديني والطائفي والشللي الضيق لتسبر أغوار التخصص الدقيق (لأول مرة) قبل جميع الأمم: فظهرت في العصر العباسي تواريخ متخصصة، ومنها تواريخ الأفراد وسِير المبرزين، من نوع (who’s who) من عيار (طبقات الشعراء)، إضافة إلى تواريخ القضاة وتواريخ الأطباء المبرزين من بين تواريخ أصحاب الحرف والمهن، زيادة على بروز تواريخ الأدب العربي المتعددة.