قبل أن يعقد مؤتمر المائدة المستديرة الذي عقد في أربيل في آذار من العام الماضي بأكثر من شهرين كتبت في هذا المكان أن الوضع القائم في العراق ليس دولة ولا حكومة ولا ديمقراطية، ولا يحزنون. بل هو شراكة مصالحية طارئة بين مجموعة من (الأولاد الصغار) لم يتم اختيار أي من أفرادها من قبل طائفته أو دينه أو قومه أو مدينته، ليدعي تمثيلها في هذه اللعبة السمجة المخجلة. فهم جميعا لملمهم القائد الأمريكي الخبيث، في غفلة من الزمن، من مقاهي السيدة زينب في دمشق وبارات لندن وحارات عمان والرياض وطهران وقم وجعل منهم رؤساء ووزراء ونوابا وسفراء ومدراء وأصحاب مليشيات ومجالس وأحزاب وتجمعات هي في واقعها عصابات أنشأها ومولها وسلحها ونظمها ودربها وأمسك بقيادها ممولٌ أجنبي، أمريكي أو إيراني أو عربي قومي أو عربي سلفي، أو حاكم أناني خبيث من حكام دول الجوار لا يريد للعراق أن يعرف العافية والاستقرار والازدهار.
ويوم عقدوا اجتماع المائدة المستديرة في أربيل كتبت أيضا أن الشراكة بين هؤلاء الصغار لن تدوم. وهي إذا ما تحققت، بقدرة قادر، ولحاجة عابرة وظروف اضطرارية قاهرة، فلابد أن ينفرط عقدها فور زوال تلك الظروف وانتفاء تلك الحاجة.
يومها غضب علي كثيرون من قرائنا ذوي النوايا الحسنة، وشتمني أحبة نوري المالكي وأنصار دولة القانون والعراقية وغربان البعث الطريد.
ثم، وعلى شاشات الفضائيات التلفزيونية (الوطنية) و(الشقيقة)، رأينا (دولة) الرئيس نوري المالكي يتصدر المجتمعين، وعلى يمينه (معالي) صالح المطلق، وكان إلى ما قبل أيام مارقا ومدانا بعلاقته بحزب البعث ومشمولا بقانون الاجتثاث، و(فخامة) نائب الرئيس طارق الهاشمي. كان المالكي، على غير عادته، باسما مهللا أكثر من غيره بكثير، حتى صدق كثيرون من العراقيين والعرب بأن فرحه الغامر هذا بمبدأ المصالحة والمشاركة وحكومة الوحدة الوطنية دليل على نزاهته ونقائه الوطني، وبرهان على ظلم إشاعات خصومه التي كثيرا ما اتهمته بالطائفية وبالميول الديكتاتورية الدفينة التي تترقب الفرصة الملائمة لتخرج من مخابئها المظلمة.
ثم جاء الزمن، في هذه الأيام الساخنة الأخيرة، ليعلن المالكي نفسُه في مؤتمره الصحفي الأخير أن “مبدأ التوافق الذي كنا بحاجة إليه” في الأعوام الماضية “انتهى الآن”،
ثم كشف سرا خطيرا. قال إنه كان قد أعد ملفا ضخما، منذ سنوات، عن جرائم طارق الهاشمي الإرهابية، وقدمه لعبد العزيز الحكيم.
ثم هدد باقي شركائه في الوليمة الوطنية، بأنه يملك ملفات أخرى عن أشخاص مهمين، سيعلنها إذا ما أضطر لذلك.
تصوروا. ألم أقل لكم إنها لعبة أولاد صغار؟ لماذا وافق المالكي على تنصيب طارق الهاشمي نائبا للرئيس، وهو متأكد من أنه مجرم وقاتل وإرهابي؟
وإذا كان وطنيا نزيها وشريفا ومخلصا وصاحب مباديء وقيم ويرفض مشاركة القتلة الإرهابيين فلماذا لم يعلن ذلك للعراقيين، في يومها، ولماذا لم يهدد بالاستقالة في حالة إصرار الأمريكان على فرض الهاشمي نائبا للرئيس؟
ثم، إذا كانت لديه ملفات أخرى عن إرهابيين آخرين، فلماذا يهدد بكشفها ويستمر في صمته عليها وعلى أصحابها؟ لماذا لا يحيلها إلى القضاء (المستقل) ليقول كلمته الفصل في أصحابها كما قال في حق طارق الهاشمي؟
أنا لا أدافع ولن أدافع عن طارق الهاشمي الذي قلت عنه وعن رفاقه، مبكرا، في عام 2008 ما يلي:
مشكلتنا في العراق اليوم هي أننا بلا قادة، من أي نوع. ومرة أخرى لولا أمريكا وفعلتـُها الناقصة لما شمَّ أحدٌ من هؤلاء رائحة القصر الجمهوري، ولا سار بجانب حائط البرلمان. لدينا ساسة بلا لون ولا طعم ولا رائحة، ولدوا وترعرعوا في دهاليز أحزاب المعارضة السابقة، وعلى عطايا دول الضيافة، وأفضال ِ مخابراتها.
إن السنة العرب العراقيون بلا زعيم. فصالح المطلق، مثلا، وهو إبن الأنبار، غير محبوب ولا مطاع في تكريت وسامراء والموصل. والهاشمي الذي جاء على ظهر الحزب الإسلامي، خلفا لرئيس الحزب السابق عضو مجلس الحكم المنحل محسن عبد الحميد، وضمن نصيب جبهة التوافق في المحاصصة، وجد نفسه، مصادفة، نائبَ رئيس جمهورية، له ما لهذا المنصب من حلاوة وبريق. مع العلم بأنه، حتى بعد أن انقلب على حزبه وخرج منه لم يتطوع بمغادرة الكرسي ليخلفه عليه من يرشحه الحزب أو الجبهة أو الطائفة، باعتبار أن ذلك المنصب لم يُمنح لشخصه ولا لمواهبه القيادية، ولا حتى لحزبه الإسلامي، بل للطائفة كلها. وهو، بهذه الصيغة، أحدُ اللاصقين بالكراسي، بفضل حالة الخلخلة التي تعيشها الدولة، وليس زعيما شعبيا يمثل طائفته، ولن يكون. إنه بقية من بقايا مجلس الحكم سيء الصيت.
بالمقابل، ثبت أن الطائفة الشيعية العراقية لا تقل عن الطائفة السنية تمزقا وتشرذما واحترابا على المصالح والكراسي. الأمر الذي دفع بالشيخ عبد المهدي الكربلائي ممثل المرجع الشيعي الأعلى في العراق علي السيستاني إلى الشكوى من لجوء السياسيين العراقيين إلى دول الجوار بحثاً عن التفاهم لحل مشاكلهم. وطالبهم بالتحاور والإتفاق في بلدهم، ودعاهم الى تنظيم صلاحيات رئاسة الحكومة، لتجنب ما حصل خلال الفترة الماضية من انفراد او استبداد او تحكم بالسلطة، على حد تعبيره.
كنا نظن أن هذه الطائفة متماسكة ومتوازنة، تلمُها عباءة واحدة هي عباءة مرجعية السيد السيستاني، وترسم جميع خطواتها الاستراتيجية والتكتيكية معا، ولا تترك لأتباعها ومقلديها سوى حرية الحركة في الإنجاز، دون زيادة ولا نقصان.
وكنا نظن، أيضا، أن الطائفة الشيعية العربية العراقية، جميعَها، منخرطة في طاعة الولي الفقيه، وخاضعة بالكامل لمخابراته ولحرسه الثوري وطوابيره الخامسة، وأن السيد الحاكم في طهران أو في قم هو الذي يقرر للشيعة العرب في العراق حياتهم، ويحدد تحركاتهم، ويرفع من يحبُ من زعمائهم، ويضع من لا يحب، ويعطي المُلك العراقي لمن يشاء، ويأخذه ممن يشاء.
ثم ظهر بطلان ذلك الظن. فقد ثبت بالدليل القاطع أن في شيعة العراق شرائحَ واسعة لم يخدش وطنيتـَها الصادقة خادش، لا من قريب ولا من بعيد.
فلا المرجعية ولا طهران ولا قم تملك العصا السحرية التي تأمر فتطاع من قبل جميع الشيعة في العراق. بل أكثر من ذلك. لم يعد لأي ٍ من هذه الجهات الثلاث سلطة حتى على أبنائها السياسيين، أصحاب الأحزاب والتجمعات والتنظيمات والمليشيات التي ولدت وترعرعت وشاخت على يديها، ومن بركاتها”.
وكما تستر المالكي على ملفات الهاشمي، وكما يستر اليوم على ملفات غيره من المتهمين بالإرهاب، فقد فعل الشيء نفسه مع سوريا الأسد من قبل.
فبعد كل ما فعله البعث السوري بالعراق والعراقيين، وبالرغم من الشكاوى المتواصلة التي كان نوري المالكي وشلة المرددين والمرددات لتصريحاته يكثر من شتم سوريا واتهامها بتصدير الإرهابيين إلى العراق، واحتضان القادة البعثيين وتبني عملياتهم الإرهابية في العراق.
ولكنه، ورغم أن سوريا لم تتغير ولم تتوقف عن التآمر لا على العراق وحسب، بل على لبنان والأردن ومصر وفلسطين والسعودية واليمن والخليج، فقد تجاهل المالكي كل ذلك التاريخ الأسود، وداس على كل دماء العراقيين البريئة التي سفحها الأسد ومخابراته وأعوانه، ثم هبط فجأة في دمشق وطبع كثيرا من القبلات على جباه حاكمها، ووقع معهم اتفاقه الاستراتيجي المعروف الذي طبل وزمر لعقده هو ومستشاروه ومعاونوه.
ثم مرة أخرى يكتشف المالكي فجأة أن سوريا هي مصدر الإرهاب، وأن الوثائق والأدلة التي لديه تبرر ذهابه إلى مجلس الأمن لطلب التحقيق الدولي وإنزال أقسى العقوبات، ووفق البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة، بسوريا، شعبا وحكومة؟
والأكثر فكاهة ومزاحا أن يعلن علي الدباغ الناطق الرسمي باسم الحكومة المالكية أن “العراق كان يملك تلك الأدلة والبراهين من سنوات، وواجه بها سلطات سوريا مرارا وتكرارا، دون أن يجد من سوريا سوى الإنكار والكلام الجميل”.
وهاهو يعود اليوم إلى عشق سوريا وحب حليفه بشار والحرص على بقائه، خوفا من “مجيء حكومة أغلبية سنية تعادي الأغلبية الشيعية في العراق”.
من هنا تأتي شكوكي القوية جدا في صدقية المالكي فيما يخص اتهامات قضائه (المستقل) لطارق الهاشمي.
ولتثبيت شبهة عشق نوري المالكي بالملفات التي ينشرها أو يطويها وقت الحاجة نذكر هنا بعشرات بل بمئات الملفات الخاصة بوزراء ونواب ومدراء عامين وسفراء وضباط كبار في الدفاع والداخلية والمخابرات، سنة وشيعة وأكرادا، موالين وغير موالين، مؤتلفين معه أو غير مؤتلفين، بل إن بعضهم من قادة حزب الدعوة نفسه، متهمين بالاختلاس وتزوير الشهادات وارتكاب جرائم قتل وتهجير وتعذيب وخطف بقيت وستبقى في أدراج مكتبه ومكاتب مستشاريه وأعوانه تنتظر الساعة التي تحكم الحاجة الماسة بنشرها وفضح أصحابها وملاحقتهم قضائيا أو تبقى مطوية، من الآن حتى إشعار آخر، تماما كما ثبت أن سلفه صدام حسين كان يفعل الشيء نفسه مع معارضيه ومناصريه، على حد سواء.
إنها حروبُ ملفات سياسية خبيثة يريد فيها حاكمٌ أبله خداع شعب كامل بإقناعه بأن نشره لملفات شركائه وأعوانه لا يرجو سوى العدالة وليس غير العدالة، وأنه لا يريد بها أن يجتث من طريق وحدانيته في السلطة أشواك المشاغبين والمشاكسين الكبار، ثم الصغار، خطوة خطوة، ويوما بعد يوم.
والدليل على ذلك أن (قضاءه) نفسه لم يسمح له بنشر اعترافات أفراد حماية الهاشمي قبل المحاكمة وصدور الأحكام النهائية فيها، لكنه سارع إلى التشهير والتهديد والوعيد.
في النتيجة إنها معركة عبثية خاسرة لا معنى لها ولا مبرر، وقد راح ضحيتها مئات القتلى والجرحى من المدنيين الأبرياء المساكين.
أما طارق الهاشمي فقد أصبح في مأمن، فلن تسلمه كردستان لبغداد، مهما كانت الضغوط والظروف. فهو بالنسبة لها صيد مهم وثمين يمكن استثماره بلا حدود.
بعبارة أخرى، نحن في انتظار تفاعلات وتعقيدات سياسية أعمق وأصعب وأكثر خطورة على أمن الوطن والمواطن، لن تُحل إلا بمزيد من الدماء البريئة، ومزيد من خراب البيوت.
فهل هذه هي الحكمة والمهارة في الحكم والسياسة والقيادة، أم هي عبث صبياني معيب؟
في النهاية، لا أستبعد أن ُيعقد، غدا أو بعد غد، مؤتمرُ مائدة مستديرة أخرى في أربيل يحضره المالكي والهاشمي، كلاهما، ثم نراهما يتعانقان، وعفى الله عما سلف. فنحن في زمن العجائب، وفي دولة بطيخ، وفي وليمة شراكة مصلحية شخصية محضة لا ناقة فيها ولا جمل لا للأغلبية الشعية ولا للأقلية السنية في العراق. وكان الله يحب المحسنين.