كان صدام حسين يشن حروبه ضد معارضيه الإيرانيين وأنصارهم العراقيين، باسم (الشرعية) المهددة بـ (بالفرس) و(الغوغائيين)، وباسم الدفاع عن البوابة الشرقية. ثم تعمد تسميتها بـ (قادسية) صدام.
وكان الإيرانيون وحلفاؤهم العراقيون يخوضون معاركهم ضده باسم (مظلومية الشيعة)، جاعلين منها (شرعية) أخرى مقابلة لشرعية صدام تبيح لهم قتل جنود الحكومة الكافرة وضباطها.
وبعد سقوط نظام صدام وهيمنة دولة الولي الفقيه وحلفائها (المظلومين) على السلطة في العراق تحولت تلك (المظلومية) من شيعية إلى سنية، وأجاز الحكام الجدد لأنفسهم، باسم الدفاع عن (الشرعية) أيضا، قتل المعارضين من (قطاع الطرق) و(الغوغائيين) الصداميين. ثم أضافوا إليهم (الوهابيين) و(التكفيريين) و(الداعشيين).
ثم خرجت تلك الحروب، بعد ذلك، من حدودها الضيقة المحصورة بين إيران وخصومها العراقيين، لتتسع ميادينها وساحاتها، وتتنوع أشكالها وألوانها، ويمتد لهيبها ليصل إلى أبعد منزل عربي بين المحيط والخليج. وها نحن نعيش أكثر فصولها ضراوة ودموية هذه الأيام.
إن مقالتي هذه ليست دينية ولا طائفية ولا سياسية ولا عسكرية، بل هي إعلامية خالصة. وأكثر ما يهمنا فيها هو أن صدام حسين ورث من جمال عبد الناصر اكتشافه لقوة رصاص الصحافة والأغاني في الحروب، فأغدق، بلا حدود، على سلاح الجرائد والمجلات والإذاعات ومحطات التلفزيون ومعارض الرسم والنحت والمهرجانات والاحتفالات التي لم يكن فعلها بأقل من صواريخ الحسين والعباس. وكان أول من اخترع فكرة إصدار صحف عربية في أوربا، وذلك لاستثمار تطورها التكنولوجي، واستغلال فضاءات الحرية المتوفرة فيها، مع ما تتيحه من سعة انتشار. وها هي ساحات أوربا كلها اليوم وقد تحولت إلى مرابط لخيولنا الإعلامية العربية المهاجرة.
ومع تطور تكنولوجيا الاتصالات وظهور الأقمار (الرقمية) الحديثة القادرة على حمل آلاف محطات الإذاعة والتلفزيون أقدمت الدول والأحزاب والعقائد المتقاتلة على رفع نيران حروبها من الأرض إلى السماء.
في العراق، وحده، الآن عشرات الفضائيات الشيعية، وعشرات الفضائيات السنية، تتقاتل كلها على الهواء مباشرة، دون هوادة. فقد صار من واجب الحزب والمليشيا والوزير وشيخ القبيلة وزعيم المحافظة أن يمتلك فضائية واحدة أو أكثر، لأنها، مع أهميتها في استكمال المهابة
والوجاهة، ضرورية وأساسية لدعم المحاربين المتقاتلين في الأسواق والمدارس والشوارع بأسلحة الدمار الشامل، ولإرهاب الخصوم، وتكسير زجاج منازلهم بالملفات التلفزيونية الملفقة. وزيادة في العلم فإن أغلب هذه الفضائيات والإذاعات كلها مدفوع التكاليف بالكامل من أموال مختلسة من الداخل، وأخرى مهداة من خارج الحدود.
ومثلما يحدث على الأرض يحدث على الهواء. فالقاتل يذبح ضحاياه وهو يرفع المصحف ويصيح: (الله أكبر على الظالمين). والمقتول يسقط وهو يرفع المصحف ويصيح: (ألله أكبر على الظالمين). هذا معمم وبلحية مصبوغة بالحناء، ومسلح بالقنابل والمفخخات والسكاكين، وذاك معمم أيضا وبلحية مصبوغة بالحناء، ومسلح أيضا بالقنابل والمفخخات والسكاكين. هذا يهدم جوامع، وذاك يحرق حسينيات. هذا يعلن انتصاره بقتل العشرات من النواصب الكفرة، وذاك يعلن انتصاره بقتل العشرات من الروافض المشركين. وبين هذا وذاك يتساقط مئات وألوف الأبرياء، ومئات وألوف القتالين الذباحين، سواء بسواء.
والمحزن الحقيقي في كل ذاك أن مصر التي ابتليت هي نفسها، وما زالت تُبتلى، بالتطرف والتخلف، هي التي تسمح لقمرها (نايل سات) بأن يتساهل ويطنش ويحتضن جميع الفضائيات المتناحرة، دون تمييز ولا تفريق بين مليحها وقبيحها، ليدخلها إلى مقاهينا ومدارسنا وغرف نومنا، ليل نهار.
وإدارته تعلم، أو لا تعلم، بأن غالبية ما تحتضن من فضائيات، بخطابها وبرامجها وأشخاصها المتطرفين المتعصبين، أخطر من المليشيات التي تقاتلها قوات (حكومتها) في سيناء، وتشترك في قتالها في ليبيا واليمن.
خذوا هذا مثالا. مؤخرا نقلت عشرات الفضائيات التي تخرج من (عاصمة الرئيس السيسي) تصريحا لمعمم عراقي لا يقل دموية وعدوانية وجهالة وطائفية عن داعش والنصرة والقاعدة ومنظمة بدر والعصائب وحزب الله في العراق وسوريا، وعناصر بيت المقدس في سيناء، وأنصار الشريعة في ليبيا، والحوثيين في اليمن، قال فيه:
” هناك ثلاثة ملايين مسلح في اليمن، كيف ستتعاملون معهم، (مشيرا إلى التحالف العربي الذي يقاتل الحوثيين) إذا نزلتم للأرض ستتحول عليكم جهنم.” gNKCQhttps://www.youtube.com/watch?v=jlkpU_
تصوروا. رجل دين بعمامة بيضاء وبلحية ناصعة البياض يتباهى بثلاثة ملايين مسلح، بسلاح الولي الفقيه طبعا، لمقاتلة أحفاد معاوية ويزيد في اليمن، ويهدد بجعل أرضها جهنما جديدة يصل فيها دم اليمنيين إلى الرُكب. ثم تأملو الفيديو، وعدوا الفضائيات المحتشدة حوله لنقل كلامه الفاضي، وكلها من زبائن (نايل سات) المزمنين.
فما الفرق الذي تراه إدارة (نايل سات) بين القتل بالرصاص في سيناء والقاهرة وطرابلس وبنغازي وحمص ودرعا وحماة ودرعا وبغداد وديالى والأنبار وصلاح الدين وصنعاء وعدن وتعز، وبين القتل بالصوت والصورة على قمرها الأكثر انتشارا ومشاهدة من سواه؟!.
وإذا استثنينا بضعاً من القنوات المعقولة المتنورة المتوازنة فإن هناك العشرات من الفضائيات التي تمولها وتديرها حكومات أو مراجع دينية وطائفية، أو جهات حزبية متطرفة يلعلع فيها الرصاص أربعا وعشرين ساعة. تنضح سُما، وتوقظ الأحقاد النائمة، وتروج لثقافة العنف والتجهيل والتضليل والتكفير والتشهير، بزعم محاربة الكفر وإعلاء راية الإسلام.
وكأن إدارة (نايل سات) تريد بذلك أن تثبت أننا أمة فاشلة متخلفة لا ترجى لها يقظة، وأن ديننا دين قتل وحرق وذبح ولطم وضرب للرؤوس والصدور بالسلاسل والسيوف، وأن حضارتنا لن تخرج من سجن الخرافة.
لا أسمي هذه الفضائيات، ولكن المشاهد العربي يعرفها جيدا، ويعرف خطورة تأثيرها على شرائح واسعة من البسطاء الذين يسهل إثارة نوازعهم الغريزية والطائفية والعنصرية، وإفساد نفوسهم وقلوبهم، وإعادتهم إلى الجاهلية الأولى وعاداتها وطقوسها وأفكارها البالية.
ومن يراقب هذه الفضائيات، وأغلبُها عراقية وخليجية وإيرانية، مع الأسف، لا بد أن يقتنع بأن إدارة (نايل سات) تحتضنها لا إيمانا بمضامينها التخريبية، ولا جهلا بخطاباتها المفضوحة المعلنة على الهواء، بل رغبة في تحصيل ما تدفعه من مال، وليس غير المال.
فهل في مصر العزيزة من يشرح لنا سر هذه (البراغماتية) التجارية العجيبة لدى إدارة (نيل سات) حين تحمل فضائيات تدعو لقتل المتطرفين على الأرض، وفضائيات أخرى يملكها هؤلاء المتطرفون أنفسُهم، وتسمح لهم بأن يُشهروا سيوفهم وينشروا سمومهم، على الهواء؟ وهل حاجة مصر إلى المال تبرر سماحها بترويج العنف، والتهديد بملايين المسلحين، ونشر الحقد والتعصب والتطرف والخرافات والأفكار الظلامية المتخلفة، على قمرها؟؟ أفتونا يرحمكم الله.