في كل دول العالم المتحضّر وحتى النامية منها، ممن لديهم نظام اجتماعي وتشريعات نافذة فأن الإنسان فيها وبعد سنوات طويلة من العمل وخدمة ممتازة لوطنه واستقطاعات شهرية منتظمة من معاشه، يستحق بجدارة وبلا منية، راتباً تقاعدياً مُجزياً وامتيازات عديدة في مرافق متعدّدة، ويستحق من حكومته أن يعيش حياة حرّة كريمة مفعمة بالرفاهية، لما تبقى من خريف عمره تخفّف العبء عن كاهله وتوفر له الخدمات أينما ذهب، وتجزيه وتصل إليه وهو في عقر داره.
ومن هذا الاستهلال أتحوّل إلى محنة المتقاعد العراقي في الخارج حالياً ومنها الأردن كمثال وما عاناه خلال الشهرين الماضيين من عُسر في نيل مصدر رزقه في الحياة، فبعد أن تلقى مصرف الرافدين في عمان أمراً غريباً من الإدارة العامة في بغداد بوقف صرف رواتب المتقاعدين بشكل مباشر عن طريق منافذها وبكل أشكاله، وتحويل هذا الشأن إلى البنوك العاملة في الأردن، ليُستقطع البنك من راتبه مبلغاً محدوداً ، إضافة إلى خصم مقطوع لحساب شركة (ماستر كارد) في العراق، كعمولة فاحشة غير منصفة، وأصبحت بطاقتها الائتمانية في هذا الوقت نقمة لا نعمة عليه.
إن المبلغ المسموح سحبه من جهاز الصراف الآلي لكل البنوك، محدّد سقفه وضئيل، وعلى شكل دفعات لا دفعة واحدة، ولأيام متوالية لا في نفس اليوم لحين نفاد كامل الراتب. وتتكرّر هذه الاستقطاعات المُجحفة التي تصل أقيامها لعشرين دولار عن كل عملية سحب. وبذلك يكون هذا المتقاعد المسكين والكَهل قد تعرض إلى سرقة في وضح النهار وابتزاز وقح وفاضح لا مفرّ منه إضافة إلى الحيرة والذل وهو يتنقل بين تلك البنوك، ملتصقاً بأجهزة صرّافها الآلي. ناهيك عما لحق لمتقاعدي الخارج من تعسّف في العام الماضي عندما خفّضت الحكومة قيمة الدينار العراقي أمام الدولار فانخفض راتبه تبعاً للفرق بينهما…!
فلماذا هذا الاضطهاد والجور للمتقاعد…؟
هل هي مكافأة له، أم قصاص ضدّه…؟
أم شجاعة الحاكم في اتخاذ قرار جائر…؟
لمن يعنيه الأمر وبعد كل الذي حصل، ما جدوى وجود بنايتين كبيرتين في مدينة عمّان تعود ملكيتهما إلى وزارة المالية العراقية، تحملان أسم وشعار مصرف الرافدين، يشغلهما أكثر من 25 موظفاً، يتقاضون رواتب شهرية بآلاف الدولارات، كان شغلهم الشاغل خدمة هؤلاء المتقاعدين، أمّا عملهم الآن فليس سوى تعاملات مصرفية خجولة لا ترتقي إلى مكانة مصرف الرافدين الدولية ولا تتناسب مع حجم التبادل التجاري الواقع بين العراق والأردن…؟
أليست هذه بطالة مقنّعة…؟
إن مصرف الرافدين في الأردن وما كان يؤدّيه قبل هذا القرار الغامض واللا وطني، هي أسهل وأبسط خدمة ممكن أن يقدمها مصرف عريق، تجاه عملائه وكذلك عملاء مصرف الرشيد في كل أنحاء العالم لتعود بالفائدة المادية لهما أولاً، وفائدة وراحة المتقاعد المحترم ثانياً. وكان المتقاعدون في حينها مطمئنين لتلك الخدمة تحت يد موظفي المصرف الأكفاء والغيورين، ومنشرحين لمدى تعاونهم معهم، ولا توجد استقطاعات من رواتبهم، ويتأملون تفعيل جهاز الصرّاف الآلي الخاص بالمصرف لتهوين أمرهم أكثر، وهذا أقل ما يستوجب المتقاعد، ولكن…!
ولغاية كتابة هذه السطور لم نسمع تفسيراً منطقياً من إدارة المصرف أو حجّة مبرّرة رسمية لما يحدُث، وما زال المتقاعد في حيرة من أمره…! لكن الأنباء المتسرّبة والمتداولة بين المتقاعدين والتي لا نشك بصحتها أمام ما يجري في العراق، هو جزء من فساد منظّم للمنظومة المالية وارتباطها بمصالح نفر من شذّاذ الآفاق وعديمي الضمير أو ما يُطلق عليهم اليوم (بالحيتان) على حساب المواطن. والأدهى من ذلك أن أيّاً من رجال السلطة المالية في الحكومة لم يُحرّك ساكناً لما يجري من خذلان لهذه الشريحة، على الرغم من مرور فترة على بدأ هذه المهزلة، مما يعطي انطباعاً ورسالة واضحة بأن هذه الحكومة غير مكترثة لما يجري لتلك الفئة، طالما هم متنعّمون بمناصبهم وامتيازاتها، ويحوزون كامل رواتبهم ومحفزاتها حتى بعد تقاعدهم…!
هل لأنها حكومة منتهيه الولاية والصلاحية أم عادة مألوفة لها…؟!
السفير العراقي في عمّان باعتباره أب للجالية العراقية، وأيضاً المديرة الإقليمية لمصرف الرافدين باعتبارها الجهة المعنيّة المباشرة، يتعرضان يومياً لضغوط هائلة بسبب هذا المأزق من خلال تلقيهما اتصالات هاتفية مستمرّة أو عند لقاءهم وجاهياً بهذه الشريحة وكذلك تعرضهما للتنمّر اللفظي القاسي في مواقع التواصل الاجتماعي، هما بالتأكيد لا ناقة لهما ولا جمل بكل المشكلة. وعلى الرغم من الجهود المبذولة والمشكورة من قبلهما لحل هذه المُعضلة من خلال تواصلهما مع محافظ البنك المركزي العراقي واتصالاتهم مع كبار موظفي وزارة المالية والوعود التي يتلقيانها بالفرج القريب، إلا إن هذه الوعود كاذبة جوفاء وكلام معسول في ملعقة فارغة، لا تُسمن ولا تُغني من جوع…!
لكني أجد وأنا أحدهم إن المتقاعد مُحقّ في مطلبه وبأعلى صوت لإيصالها لأعلى السلطات وبأي وسيلة ممكنة لنيل حقوقه الطبيعية، متكأين على المثل الرائج (قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق) والذي يعرف مغزاه العراقيون ونتائجه أكثر من غيرهم…!
وعليه فأننا نُناشد محافظ البنك المركزي أو وزير المالية، ومن موقع المسؤولية أمام الله، والأدبيّة تجاه شرف المهنة والضمير، وفي إنكار ذاته وتغليب المصلحة العامة على الخاصة، أن يعيد للمتقاعد هيبته وكرامته، كي يشعر المتقاعد بالقدر الأعلى فيما تبقّى من حياته مثل بقية شرائح المجتمع، ومحترم بالحد الأدنى من حكومته، ويتشوّق في الوقت نفسه علوّاً في راتبه لا اجتزاءه، ورعاية واهتمام أكثر لا كتمه وتحديداً الأردن، إذ يبلغ عددهم حالياً أكثر من ثلاثة عشر ألف فرداً يُقيمون في بلد يعتبر واقعياً الأغلى في المنطقة من حيث تكاليف المعيشة، وهم شكلياً أبناء بلد هو الأغنى في العالم بخيراته، لكن لم يحوزوا منه ما يستحقونه أبداً… والله من وراء القصد.