كيف أستطاع خمسون كتابا عظيما إنقاذ حياتي
كيف بإمكاننا التعامل مع كتب ٍ لا نحبها؟ أستوقفني هذا السؤال الذي يطلقه آندي ميلر في كتابه (سنة القراءة الخطرة) الكتاب من ترجمة : محمد الضبع ومن إصدارات دار كلمات – الكويت – ط1- 2016.وهذا السؤال ليس مفتتح الكتاب بل يتموضع في ص160 والعنوان التفسيري أو الذرائعي للكتاب هو (كيف استطاع خمسون كتاباً عظيماً إنقاذ حياتي )..يقارن المؤلف (آندي ميلر) بين روايتيّ (شفرة دافنشي ) للروائي دان بروان ، وبين رواية هيرمان ملفيل ( موبي ديك )..قرأت ُ شفرة دافنشي كما قرأت (الحصن الرقمي )و( حقيقة الخديعة ) و(ملائكة وشياطين )لدان بروان ..وكذلك فعلت مع الروائي البرازيلي (باولو كويللو) الذي أشتهر من خلال جماليات روايته القصيرة (الخيميائي) فأصبحت الماركة المسجلة وبطاقة التعريف التجارية في وجه معظم أغلفة رواياته .. شخصيا أميل لرواية (موبي ديك) أشتريت ُ رواية هيرمان ملفيل في 11-1- 1980 من مكتبة في مدخل سوق المغايز ، في شارع الكويت ، بعد سنة تحولت المكتبة محل لبيع الاحذية ، كما تحولت مكتبة المثنى لقاسم الرجب في شارع الوطن مقابل سينما الوطن : محل أحذية حراق !! وفي التسعينات سيغلق الطاغية البارات والسينمات ..ومايزال الأمر الإداري ساري المفعول ..أحببت (موبي ديك ) صادقت (آخاب ) الذي هو فعلا (خاقان سفينة ، وملكا على البحر، وسيدا عظيماً على الحيتان ../223) ..و(إسماعيل ) وذلك الوثني ( كويكوج ) ومازلت أحفظ هذا الكلام الحكيم (ماذا كان يعني الحوت الأبيض، لدى آخاب ، ذلك ما ألمحت اليه ، أما ماذا كان يعني لدي – في بعض الأحيان – فذلك شيء لم اتحدث عنه لحد الآن ../315)…وطلبت ُ من صديقي الحميم الخطاط كمال حسين أن يخط العبارة التالية المقبوسة من ص579 في رواية موبي ديك ..(بعض الاشياء تكون فيها الفوضى العامدة هي المنهج الصحيح ..)..هذه الرواية لاتثير الشبهة وهي تتنقل معي أثناء الخدمة الإلزامية الدامية في الجيش ، لاتستفز أحداً ، الآن وأتصفحها تتأرج تلك الوجوه الفتية المكتهلة بسب الخوذة ..تغمرني ضحكاتهم وملاحظاتهم حول الرواية ونحن نتنقل بين جبال العراق ..(هيرو – كنو – بلغة – قنديل – كوميتان – شهيدان – نوره – رانية ..) ومن سفح ..إلى قمة ..ومنها للقرى
الكوردية الغافية بسلام آسر ..(شيروت – بوسكين – جيراوه – سرة رشت -..ألخ) مع هذه التنقلات تتراجع بعض الوجوه ..تختفي بعض الأصوات ، تملص بعض الاقدام ، قبل أن تنتزعها مخالب الاستخبارات من يطغاتها النائمة ..تبقى بقية لطخة طين في الصفحة الأولى من رواية موبي ديك ، ليس كأثر جرح في الجسد الآدمي .بل تذكار محبة يعيدني.. إلى صحبة ٍ أتمنى الآن أن أحضنهم واحدا واحداً…وهكذا بالنسبة لي تحولت الآن (موبي ديك ) من رواية بسعة ( 908 صفحة ).. إلى آلبوم صور للوجوه التي استعارت هذه الرواية مني في تلك السنوات الدامية ..أحببت ُ (موبي ديك ) وأنا أقرأ روايات تسمى مابعد الحداثة ، لأن السارد الذي يصادفنا في الصفحة الأولى ، يخبرنا ..(أسمي في هذه الرواية …) ثم يذكر السارد اسمه ..وهنا يصرخ الناقد (…) ومايفعله المؤلف هنا هو الاشتغال على مابعد الحداثة !! وهنا أسأل الناقد النحرير ..مارأيك بالسطر الأول من الفصل الأول من رواية (موبي ديك ) …(قبل بضع سنوات ، لاأدري عددها على وجه الدقة ، كنت ُ أنا – وليكن أسمي الذي أعرف به هو أسماعيل …/ ص29) ..في أي منطقة اشتغل هرمان ملفيل ، قبل أكثر من قرن ؟! ولنتعلم كيفية التعايش السلمي بين الأديان ..يخبرنا اسماعيل عن ( كويكوج ) صديقه الوثني ..(كنت مسيحيا متدينا ً، ولدت ُ ونشأت ُ في احضان الكنيسة ../ ص103) ثم يتساءل (ماالعبادة ؟ – الأمتثال لارادة الله ، تلك هي العبادة . وماهي ارادة الله ؟ أن أعمل لأخوتي بني الإنسان ما أحب أن يعمل بنو الانسان من أجلي…سؤال آندي ميلر الذي ثبته في السطر الأول من مقالتي ، سأعمد إلى تحويره ونحن العراقيين مهرة في التحوير : إلى كم نستطيع أن نحب كتباً معينة ؟ وهل يتغير حبنا لها ، إذا قرأناها الآن ثانية ..؟ تعلقت ُ طويلا بروايات حنا مينه ونجيب محفوظ ودواوين عبد الوهاب البياتي وروايات دستويفسكي وجبرا إبراهيم جبرا والطيب صالح ومعظم كتابات نوال السعداوي ….إلخ…في بداية مراهقتي وشبابي أحببت ُ روايات محمد عبد الحليم عبدالله ، روايات عائلية لذيذة ودافئة ومهذبة ولا روزنامة فيها ، أعني لانعرف الفترة التاريخية التي تدور فيها الرواية ، كما هو الحال مع الروائي / المؤرخ نجيب محفوظ بنكهته الفلسفية السردية ..كما هو الحال في طور من أطواره الروائية ( أولاد حارتنا – اللص والكلاب – الطريق – الشحاذ – الكرنك – السمان والخريف – المرايا – حكايات حارتنا – حضرة المحترم ..) لكن الآن حين أعود لبعض هذه الكتب أشعرها خامدة النار ، وبعضها أكرر قراءتي لفصول منها ..أجد في هذا الفصل نصا باذخا مكتمل الاستقلالية ،كما هو الحال مع فصل (المفتش الاعظم ) في رائعة دستويفسكي (الأخوة كرامازوف ) يكون انشدادي لشخصية ديمتري ، ولا أهمل ميشيا أو الأب زوسيما ..لكني حين ألتقط الجزء السابع من الاعمال الكاملة لدستويفسكي ، طبعة
إيطاليا / 1985ستقتصر قراءتي التي لاتتوقف إلاّ بعد إنهاء هذا العمل الروائي العظيم ،أعني (في قبوي) الذي بسعة 198صفحة من الحجم المتوسط ..أشعر كأن دستويفسكي إنتج هذه الروعة في ليلة شتوية رشيقة الطول وبدون توقف ..لكن شعوري هذا خاطىء جداً
فقد كتًب َ دستويفسكي هذا الكتاب في آذار1864 في أتعس لحظة حياته ، أعني وزوجته كانت تحتضر وهو جليسها ، وماتت زوجته في 15 نيسان فتوقف عن الكتابة ، ثم حين عاد إلى بطرسبرج في نهاية نيسان أستأنف الكتابة ..يبدو أن دستويفسكي هنا يقوم بحراثة سردية عذراء فعلا ، سواء أصغينا أم لم نصغ ِ…لشهادة الناقد ألكسندر سولوفيف (أن هذا الكتاب الغريب هو من أعمق آثار دوستويفسكي ، ان لم يكن أكملها على الإطلاق من ناحية الشكل ،فأما أن الكتاب غريب فأن الشعور بالغرابة هو ما تمتلىء به نفس القارىء أثناء قراءته ، إذ يحس أنه ازاء لون من ألوان الكتابة والتعبير لاعهد له بمثلهما من قبل ، لافي أعمال دستويفسكي التي سبقته ولافي أعماله التي ستعقبه ، ولافيما قرأ من أدب سبق دستويفسكي .).. ولم يسبق الناقد سوى الروائي دستويفسكي في هذا الكلام وهو يراسل شقيقه ..(أن صياغة هذا النص أصعب مما كان يتخيل ..أن القصة جيدة حتماً وأن العنصر الشعري فيها لابد أن يلطف سائرها وأن ينقذه ..) نلاحظ كيف دستويفسكي الأهمية بالقسطاط : صياغة ——— مضمون —— شعرية السرد ..
كقارىء لايعنيني كلاهما : المؤلف والناقد ..لاتعنيني سوى شخصية النص المتماسكة الفتية دائما التي تجعلني أراها هي هي رغم تنويعات قراءاتي وكتاباتي
وتجربتي الدؤوبة في القراءة ..أرى في رواية (في قبوي) خلاصة قوة عبقرية دستويفسكي العظيم ..دستويفسكي المعاصر دائما ..
*المقالة منشورة في (طريق الشعب) 10 كانون الثاني2017