23 ديسمبر، 2024 12:15 م

مظفر النواب ، اسطورة حيّة

مظفر النواب ، اسطورة حيّة

للأسف ، الكثير من الشباب ، لم يسمعوا بهذا الاسم ، والسبب هو الحرمان الثقافي وهو كسائر الوان الحرمان في هذا الزمن ، ومن يدري ، قد يأتي زمان قد لا يعرف شبابنا ، ثمرة اسمها (التمر) ! .
هذا الشاعر ، ملأ الدنيا صراخا وصخبا وتمردا ، هذا الشاعر ، الوحيد الذي رفع عقيرته بوجه الانظمة الدكتاتورية الرهيبة في عقر دارها وفي أوج قوتها ، بينما التزم باقي الشعراء أما الصمت ، او تحول الى قلم مأجور منغمسا في الانتهازية ، وأختار بعضهم المنافي موئلا لهجاء تلك الأنظمة ، الا مظفر .
لقد القى ديوانه (وتريات ليلية) في دمشق اوائل السبعينيات ، وكنت وقتها طفلا استمع الى (كاسيته) خلسة كل يوم ، حتى حفظته عن ظهر قلب ، متعجبا من شجاعة وصلابة هذا الشاعر ، وقد كتبتُ في أحد مقالاتي واصفا طفولتي :
لم أكن سويّا كأقراني
أزحتُ قصص (سوبرمان والوطواط) المؤجرة جانبا
لألتهمَ اشعار (مظفر النواب ) الملتهبة الممنوعة
ذرات من الملح ، لئلا انس جراحي
ويذكّرني نخيل بلادي
بالصلب على الجذوع ، لا بخير الثمرْ
ودجلة والفرات ، بالدم أيام التترْ
وأعياد الميلاد ، بالتقرب من القبرْ
ونفط بلادي ، بمسّ (سقرْ)
—————————
وعرفت انه من القلائل جدا ممن لا يشمله قول الله سبحانه ( والشعراء يتبعهم الغاوون ۞ ألم ترَ انهم بكل واد يهيمون ۞ وانهم يقولون ما لا يفعلون ) .
أتذكر مقطعه المدوّي الذي يهجو به (السلاطين) قائلا :
أولاد الـ (….) لستُ خجولا حين اصارحكم بحقيقتكم
ان حظيرة خنزير اطهر من أطهركم
تتحرك دكة غسل الموتى
أما أنتم لا تهتز لكم قصبة .
—————————
ويقال ان البعض في سوريا ، ارادوا استثمار هذا الجو الناري العاصف لخلق دعاية للنظام ، فرفعوا صورا لـ (حافظ الأسد) ، فما كان من (مظفر) الا ان قال :
ما أوسخنا ، لا استثني أحدا !
وطًرد على اثر ذلك من سوريا ، باحثا عن بؤرة ظلم جديدة في هذه الأرض وما أكثرها ، ليتجه صوب (اريتيريا) حاملا السلاح !، وقبل ذلك كان في (عربستان) ، لتلاحقه السلطات الايرانية ، ويصف (مظفر) هذا الجو المرعب قائلا :
وصرختُ اله البرّ سيكتشفوني
وساُقتل في البر الواسعِ
والريح على أفق (البصرة) تذروني
ويدُ الطينِ ستمسح عن جبهتي المشتاقة
نيران جنوني
————————
ولكن ما لبث السلطات الايرانية ان القت القبض عليه ، وتعرض الى التعذيب الشديد ، ويصف ما تعرض اليه قائلا :
تناوبني بالسوط والاحذية الضخمة
عشرة جلادين
كانت لكبيرهم عينان مطفأتان مثل بيتا نمل
ينبت من منخاريه شعر خنزير
———————–
وسُلم للسلطات العراقية ، ليسجن في سجن الحلة ، ليحفر نفقا داخل السجن بواسطة (هيم) هُرّب اليه في (قالب ثلج) ، ونجح في الهرب ! ، اليس هذا (سوبرمان) زمانه ؟.
هذا ديدن تلاميذ (علي بن أبي طالب ) و(ابو ذر) ، وهؤلاء التلاميذ ، مولعون بالحرية ، وتكون هاجسهم وشغلهم الشاغل ،فهي سر الحياة بكرامة ولمظفر فكره السياسي الخاص ، اي انه نسيج فريد ، هو لم ينغمس في (الاممية) بشكل ينسيه جذوره فقد قال :
يا حامل مشكاة الغيب
بظلمة عينيك
ترنم من لغة (القرﺁن)
فروحي عربية
———————-
ويعترف انه لم يخضع لفكر سياسي قياسي ، كان منقحا لأدبيات الأحزاب تارة ، ومتمردا عليها تارة أخرى  فقد قال :
وحصانٌ بدويٌ ابديٌ
لا يمكن أن تُسرجه الدنيا
جسدي
أضحك ممن يغريني بالسرج
وهل يُسرجُ في الصبح
حصانٌ ، ورثَ الجبهةَ عن معركة (اليرموك)
وعيناه (الحيرة) ، والامطار
———————–
كان بأمكانه ان يهنأ بعيشة راضية هنيئة كأي شاعر ، ولكنه أحس بثقل الأمانة ، فلم يخنها ، أثر ان يعيش في المنافي وقد هُدر دمه في معظم البلاد العربية ،ملاحقا ، مغتربا حتى قال :
أحتكّ بكل الجدران
كأن الغربة يا قاتلتي
جرب ٌ في جلدي
————————
ولكن الخيبة ، كل الخيبة ، ان هذا الشاعر الفريد الفذ يتهدده النسيان  في العراق الجديد ! ، قرأت قبل سنتين لأحد الكتّـاب مقالة في جريدة (الصباح) بعنوان ( أنه النوّاب يا أبا أسراء) ، وكأنه يستجدي لتغطية نفقات علاج هذا الشاعر العظيم ، لقد اتعبت قلبه عاديات الزمن والحزن والغربة والخيبات .
كنت اتصفح بلهفة كتاب (الادب) لولدي ، علّي أجد فصلا كاملا لمظفّر ، فوجدتُ الكثير من سير شعراء لم أسمع بهم ، ولكن (مظفّر) غائب ايضا ، فيا للحسرة .
فضائياتنا تستعرض الكثير من الشعراء العرب ، مثل نزار قباني وفؤاد مطر ، ولكن الشعراء العراقيين ، غائبون مرة أخرى ، خصوصا مظفر النواب .
انجدوا (العراق) ، انجدوا تراثه وتاريخه ، انجدوا معالمه وأنهاره ، انجدوا (مظفّر النواب) .
انجدوه قبل فوات الاوان ، ما دام فيه رمق ، احتضنوا اسطورة حية ،  فلا زلنا نتباهى بملحمة (كلكامش) و مسلة (حمورابي) ، فمتى نتباهى بمظفّر النواب ؟.