18 ديسمبر، 2024 8:12 م

مظاهرات 2018 … صراع إرادات أم احتجاجات شعبية؟

مظاهرات 2018 … صراع إرادات أم احتجاجات شعبية؟

مع اندلاع التظاهرات الأخيرة في فرنسا، عاد المراقبون بالذاكرة إلى الحركات الاحتجاجيّة التي خاضتها دول الربيع العربي ، ورغم تنوّع الفضاءات السياسية بين الأنظمة العربية والأفريقية والغربية والأسيوية ، فبعضها تهيمن عليه حالات الطوارئ والاستثناء وتعدّدية الفاعلين الذين يتدخلون في المجالات السياسية والمجالات العامة. وقد شهد تشكّل الدولة القومية إنتاج أشكال مختلفة من المواطنة وانعدام الجنسية والهوية وحالات اللجوء وحالات الطائفية وبعض حالات الإنقلابات العسكرية .
وتقترن حالات الفقر المدقع بدورات من قمع الدولة، وحالات الصراع والتشريد (كما في العراق، وجنوب السودان، ودارفور)، وحالات الاحتلال العسكري (كما في الأراضي الفلسطينية)، وإنتاج فضاءات الاستثناء (باب التبّانة في طرابلس ومخيّمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان)، إضافة إلى حركات الاحتجاج العالمية والمحلية كما الآن نشهدها في ( فرنسا و العراق والأردن وإثيوبيا وزيمبابوي والمغرب وتونس والسودان).
ورغم التباينات الواسعة بين تلك الأوضاع، فإنها تُظهر نقاطاً مختلفة على خط بياني يتّسم بالانتقال من حكم القانون إلى “قانون الحكم”، والانتقال من النظام ٌ الموحَّد إلى ما يدعوه ميشيل كامو وجيل ماساردييه، بـ “الأنظمة الجزئية”.
شهدت الساحة الدولية مؤخراً حركات احتجاج عديدة تسبّبها التعبئة السياسية غير المنظمة في الشارع وكلها إرتبطت بالعامل الاقتصادي، فقد رأينا بفرنسا دولة الحرية والليبرالية كيف بدأ المحتجون بمهاجمة رجال الشرطة وتكسير المحلات والسيارات الخاصة والعامة، إضافة إلى إثارة الفوضى والخوف في شوارع المدن الفرنسية، حتى وصل الأمر بمطالبة منظمة “السترات الصفراء” باستقالة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. وعند السؤال لماذا الاحتجاج جاء الرد كما يقولون كان سببها الأساسي هو زيادة سعر المحروقات.
لكن أغلب المحللين أرجعوا إن الأسباب الأولى للاحتجاجات هي السياسة الليبرالية لحكومة إيمانويل ماكرون، والتي لا تخدم سوى الطبقة الغنية في فرنسا على حساب الطبقة المتوسطة والفقيرة في المجتمع الفرنسي، مما زاد من سوء الحالة الاقتصادية للشعب الفرنسي بأغلبيته، والقشة التي قصمت ظهر البعير هو غلاء المحروقات بشكل جنوني، وقد فرض الرئيس ماكرون نوعا من الضرائب الجديدة على المحروقات والتي لا يستطيع الشعب الفرنسي تحملها.

ومن فرنسا إلى العراق التي تعاني من الطائفية والإرهاب؛ فقد تمت تعبئة الجماهير في الشوارع العراقية احتجاجا على سوء الأوضاع الاقتصادية وسوء الخدمات التي تقدمها الدولة. حيث يعاني العراقيون من تدهور قطاع الكهرباء، مما جعل المطالب تزداد بمحاسبة وزير الكهرباء وتوفير التيار الكهربائي فضلا عن إسقاط الحكومة ؛ فضلا عن أزمة مياه الشرب ، حيث تعاني البصرة من مشكلة قلة مياه الشرب والسقي بسبب الجفاف وبناء السدود في تركيا وتحويل بعض مجرى الأنهار في إيران .
في حين بدأت الاحتجاجات في عمان في أواخر مايو/أيار من العام الحالي ضد قانون رفع ضريبة الدخل وارتفاع الأسعار في عدد من المدن الأردنية، والتي طالبت بإسقاط الحكومة ورفع المشاركون في الاحتجاجات شعارات مثل: ” لن نركع” و” ما خلقنا لنعيش بذلّ خلقنا لنعيش بحرية” و” الشعب يريد إسقاط الحكومة”.
وإذا انتقلنا لغرب القارة الأفريقية وأمام البرلمان السنغالي احتجاجات على التغييرات المقترحة على القانون الانتخابي والدستور ، وأحرق المتظاهرون النفايات في أحد الشوارع خلال المظاهرات المناهضة للحكومة في داكار، فيما أطلقت الشرطة السنغالية الغاز المسيل للدموع، واعتقلت الشرطة السنغالية رئيس الوزراء السابق إدريسا سيك وعددا من المتظاهرين.
في حين تساءل الجميع عن الاحتجاجات في تونس: هل هو احتقان شعبي أم محاولات تخريب خارجية، حيث مطالب المحتجين في تونس يراه البعض محقة ويراها البعض محاولة البعض تسوية حساباته مع النظام في محاولة لإحراج الحكومة؛ في حين أن السلطة في تونس ومنذ بن علي تنظر إلى الاحتجاجات الشعبية على أنها مؤامرة تقوم بها بعض الأطراف من أجل تنفيذ أعمال كالسرقات والنهب والاعتداء على الأملاك العامة والخاصة”.
وبنظرة على الأوضاع الاقتصادية في السودان والتي بدورها لها طبيعة مختلفة، فهناك أزمات كبيرة جداً، ولكن الشعب السوداني يدرك جيداً الضغوط التي واجهتها بلاده خلال الأعوام الـ20 الماضية، والتي كانت كفيلة بمنع أي نهضة أو تقدم اقتصادي، وفي مقدمتها العقوبات الأمريكية، والأممية على السودان.
أن الانفجار آت لا محالة، ولكنه قد يستغرق المزيد من الوقت، وذلك إذا سارت الأمور نحو الأسوأ، خاصة مع وجود تدخلات خارجية في شؤون الدول الإفريقية، لخلق حالة من التمرد والعصيان ضد حكومات هذه الدول، وهو ما قد يعجل بثورات اجتماعية، ولكن في حالة وقوع هذا الانفجار الشعبي المحتمل فهل سنشهد في الاحتجاجات الاجتماعية الرافضة للأوضاع المعيشية، في أفريقيا ودول المغرب العربي وبعض دول الشرق الأوسط كالعراق وايران والاردن- حال اندلاعها – موجات من العنف أو النهب والتدمير وتوظيفها من بعض الجماعات الارهابية، أم أن الشعوب تعلمت من “ثورات الربيع العربي” أن الدمار والتخريب لن ينتجا إلا مزيداً من الدمار والتخريب، كما في احتجاجات الاورمو في أثيوبيا والتي شهدت مواجهات عنيفة، ونزاعات مسلحة شهدتها العديد من مدن إثيوبيا مؤخرًا بسبب المظاهرات التي خرج بها أبناء قبائل “الأورمو” للتأكيد على رفضهم مصادرة الحكومة الإثيوبية لأراضيهم. وقد أسفرت المواجهات الدامية بين المتظاهرين وعناصر الأمن في قتل بعض المتظاهرين ، في الوقت الذى أكدت فيه الحكومة الإثيوبية في وسط تعتيم كامل من الإعلام الرسمي حول عدد الضحايا، في الوقت الذى أكد مراقبون أن الاحتجاجات التي تواجهها إثيوبيا، ربما تعرقل مراحل بناء سد النهضة المثير للجدل.
وفي جميع هذه الاحتجاجات والحركات الشعبية كان طلاب الجامعات هم الفاعلون الأساسيون خارج نطاق المؤسسات الرسمية، وخارج ما كان يُطلَق عليه غالباً المجتمع المدني ، تقدم حركات الاحتجاج ما أطلق عليه بارتا تشاتري اسم “المجتمع السياسي” ، كإطار لفهم السياسة الشعبية للمجموعات المهمّشة. وهو بذلك يستند بقوة إلى التقليد الفلسفي لفوكو في دراسات الحاكمية للقول إن هناك فجوة “بين المتخيَّل السياسي العالي المقام للسيادة الشعبية، والواقع الإداري الفعلي واليومي للحاكمية”.
والحركات المذكورة قد تكون ظاهرة أحياناً، وسرية أحياناً أخرى، وهي تأخذ شكل المقاومة الصامتة أو شكل المقاومة اليومية، وتتجنّب السلطة، وتتفادى ممارسات القوة. كما أن هذه الاحتجاجات مدفوعة بإرادة زعماء ووعاظ عشائريين محليين اودينيين، أو بارادة أطراف خارجية ، أكثر مما هي مدفوعة بإرادة خبراء أو أفراد النخبة المثقفة أصحاب الفكر والتنوير، ويعمل الزعماء المذكورون بمساعدة الخبراء، لكي يسيطروا على فضاء حركة الاحتجاج.

ولكن أمام استباحة الاستثناء للحيّز العام، وانعدام إمكانات التداول العام والهادئ في رهانات وتحديات الشؤون العامة، لا يجد الفرد أمامه إلا ازدراء كل ما يجلبه الاستثناء، والنفور من القوالب التي تفرضها مؤسساته الرسمية، والاكتفاء بالعيش كمواطن مخالف، مع الانكفاء على فضاءات اجتماعية خاصة وبديلة من شأنها أن تعيد بعض المعنى لوجوده.
وبفتح وسائل الإعلام الحديثة مسارات للمحتجّين. والمدوّنات والقنوات الفضائية التي لا تخضع للدولة التي يتكاثر عددها باطراد، تساعد الفاعلين خارج المؤسسات على تحدّي سلطة الدولة وسيطرتها وتقنيات مراقبتها.
تلجأ تلك المجموعات إلى استخدام مواقع التواصل الاجتماعي، مثل Facebook وTwitter ، موقع المدوّنات الصغيرة (إضافة إلى You Tube and Flicker) لضمان استمرارية نقل الأخبار المتعلقة بما يحدث داخل إيران إلى العالم، وتلّقي الأخبار، وقد أصبحت وسائل الإعلام هذه تقنية بالغة الأهمية في مواجهة الهيمنة الإعلامية الرسمية. ويصف العديدُ من الباحثين أولئك الفاعلين خارج المؤسسات بأنهم عناصر معارضة للحداثة ومقاوِمة للعقلنة والعولمة.
ما ينذر باندلاع موجة كبرى من الثورات الاجتماعية في دول الشرق الأوسط والقارة الأفريقية وسيكون ذلك بسبب تآكل الطبقات الوسطى، وارتفاع معدلات الفقر والبطالة والفساد، بالإضافة إلى تنامي حركات العاطلين ومعدومي الدخل ، وهو ما يشعل المزيد من الاضطرابات الاجتماعية، التي ستقودها النقابات العمالية والحركات الاشتراكية واليسار والحركات الدينية فالاقتصاد سيكون المحور الرئيس للتحركات الاجتماعية المقبلة، بالإضافة إلى رفض شعوب بعض الدول للفساد والبطالة والتهميش الواضح لقطاعات شعبية واسعة وعليه لا يمكن لأي حكومة أن توقف التحركات الاجتماعية للفقراء والعاطلين، والتي ربما تتحول لثورات عنيفة.
بعد موجة الثورات الاولى (ثورات الربيع العربي ) التي اكتست بالصبغة السياسية وتغيير الانظمة السياسية ربما سنكون في الموجة الثانية للثورات والتي ستكون بنكهة اجتماعية اقتصادية بصدد تظاهرات قوية للفقراء والعمال والعاطلين، وقطاعات من الموظفين وأصحاب الدخول المالية الضعيفة، وقد تتطور إلى أعمال عنف تطال مؤسسات الاقتصاد والشركات والبنوك ومصالح الأثرياء في الدولة ، نتيجة الإحباط الاجتماعي للطبقات المهمشة والفقيرة، فالأوضاع الاقتصادية في الدول الغربية و الأفريقية والعربية على وجه الخصوص، لا تنبئ بالخير، فالأوضاع المعيشية تبدلت كثيراً، بعد موجات قوية من الغلاء هزت المجتمعات بداية من الغلاء المغاربي بقوة، والذى يشكل خطراً على حكومات دول المغرب العربي، التي يرونها عاجزة عن وضع حلول للمشكلات الاقتصادية.

وفي ختام تلك الكلمات المتناثرة من هنا وهناك ، وبناء عليها نتساءل مجموعة من التساؤلات من لماذا اندلعت احتجاجات الغلاء في فرنسا والسودان والأردن والعراق وتونس ؟ ما هي الإمكانات الاقتصادية لهذه الدول في مواجهتها للغلاء؟ ما الذي يجب أن تقوم به الحكومات لمواجهة الغلاء؟ ماذا عن دور الفساد في هذه الأزمة؟ أطلقت بعض الصحف على ما يحدث ثورة جياع، فما هي ثورة الجياع ومتى عرفها العالم؟ هل العقوبات الاقتصادية التي تعرضت لها بعض الدول وراء ما حدث؟