22 ديسمبر، 2024 7:05 م

مظاهرات الرافدين والعالم

مظاهرات الرافدين والعالم

منذ ان اندلعت المظاهرات في ارجاء ارض الرافدين ظهرت علامات التخبط الحكومي في التعامل مع تلك المظاهرات مما ادى الى زيادة الوضع سوء . لقد كانت نذر اندلاع المظاهرات في العراق واضحة منذ بداية تشكيل الحكومة الحالية عام 2018 ، ولكن الطبقة السياسية قررت ان تتجاهل كل تلك الاشارات والنذر وتستمر في طريقة التعامل مع تلك النذر بالاسلوب الانكليزي التقليدي ، الذي يعتمد على تجاهل الاشارات والسير قدما لحين تحقق نتائج ملموسة يمكن ان تطفيء جذوة الاحتجاجات والاعتراضات الشعبية . نجح ذلك الاسلوب في تأخير الاحتجاجات لمدة عام كامل ولكن للاسف لم تتمكن الحكومة خلال ذلك العام من ان تقدم للناس اي انجاز ملموس بما فيه استكمال الكابينة الوزارية التي بقيت لحد هذه اللحظة غير مكتملة . بالاضافة الى ذلك ، لم تنجح الحكومة في خلق قنوات تواصل مع الشعب مما خلق حالة من الفراغ سارعت وسائل التواصل الاجتماعي الى ملئه مما ساعد على ان يكون توجيه عجلة الراي العام غير واضح المعالم . كان من اثار ذلك التوجه الحكومي الذي اعتمد على ارضاء القيادات وتجاهل القواعد انفلات الوضع العام وخروج المظاهرات الغاضبة دون ان يكون لها قيادات معروفة يمكن التعامل معها باسلوب الترضية المحدودة .
نتيجة للعقليات التقليدية المتحكمة بالقرار الحكومي راينا ان الحكومة لم تكن مستعدة للاستماع لمطالبات المتظاهرين حتى قبل اندلاع تلك المظاهرات في الاول من شهر تشرين الاول 2019 ونراها سارعت الى التحصن خلف اسوار المنطقة الخضراء ومواجهة المتظاهرين بقوات مكافحة الشغب التي تبين للعيان عدم كفائتها للتعامل مع تلك الحالات . كان اول رد فعل حكومي للتصدي للمظاهرات هو استعمال الطرق التقليدية في تفريق المتظاهرين مثل خراطيم المياه الحارة والعصي والهراوات وقطع خدمات الانترنيت الامر الذي خلق حالة من التعاطف اكبر مع المتظاهرين داخليا وخارجيا ، واتاحة المجال امام جهات خارجية لنشر الاخبار عما يجري داخل المدن العراقية وادارة ملف التعامل مع العالم . حتى التبريرات التي طرحتها الاجهزة الحكومية للرد على قتل وإصابة المتظاهرين كانت مهلهلة وواهية من قبيل أن المتظاهرين هم من بدءوا بالعنف، أو أن قوات الأمن استخدمت الوسائل المشروعة فقط للدفاع عن الممتلكات العامة أو للدفاع عن النفس، أو أن القتل لم يرتكب بيد قوات الأمن وإنما بيد طرف ثالث.ورغم أن السلطات أعلنت فتح عدد من التحقيقات إلا أن نتائجها لم تعلن.
لقد كان يجب على القائمين على الملف الامني ان يدركوا من البداية طبيعة الشعب العراقي العنيدة والتي لايزيدها استخدام القوة سوى عنادا واصرارا على مطالبها وخصوصا ان تلك المطالب تعتبر من ابسط ما يجب ان يتمتع به الانسان فما بالك بالانسان العراقي . كما كان يجب عليهم ان يدركوا ان عالم اليوم لم يعد نفسه خلال الثمانينيات والتسعينيات فهناك اليوم معايير دولية متفق عليها ونصت عليها الاعلانات العالمية والاتفاقيات الدولية بما فيها “مبادئ الأمم المتحدة لاستخدام القوة والأسلحة النارية من جانب الموظفين المكلفين بإنفاذ القانون” و”مدونة قواعد السلوك للموظفين المكلفين بإنفاذ القانون” الصادره عن منظمة الأمم المتحدة. تتلخص تلك المباديء في خمسة نقاط اساسية لايمكن تجاوزها ولاتبرير مخالفتها تحت اي ظرف من الظروف او اي طاريء وهي ” دور المؤسسات الأمنية هو حماية حقوق المواطنين في الحياة والحرية والأمن ، حق التجمع السلمي والتظاهر مكفول ، يكون استخدام القوة في حالات الضرورة القصوى فقط ومن قبل الاشخاص المخولين بذلك قانونا وللحد الذي يمكنهم من أداء وظيفتهم شريطة ان يكون متناسبا مع الهدف المشروع ومع خطورة الجريمة و قانونيا و ضروريا وفقط في الحدود اللازمة وخاضعا للمحاسبة، و في جميع الأحوال لا يجب استخدام الأسلحة النارية إلا في حالات الدفاع عن النفس أو عن الآخرين ضد تهديد وشيك بالموت أو الإصابة البالغة، أو لمنع ارتكاب جريمة خطيرة تتضمن تهديدا للحياة ، ولا يجوز الاستخدام العمدي للأسلحة القاتلة إلا عندما لا يمكن تجنبه بأي وسيلة اخرى .
انطلاقا من تلك المباديء الخمس لايمكن الاحتجاج بكون المظاهرة غير قانونية لتبرير استخدام القوة مادامت المظاهرة سلمية . مادام شعار المظاهرات سلمي وتصرفات المتظاهرين سلمية وغير مسلحة فيجب ان يكون التفاوض مع المتظاهرين هو اول وسائل التعامل التي يجب ان تلجاء اليها الاجهزة الامنية وإذا فشلت هذه المفاوضات في فض التظاهرة فإن على قوات الأمن تحذير المتظاهرين من أنها ستستخدم القوة في حالة عدم إنهاء المظاهرة، وإذا لم يفلح التحذير يمكن لقوات الأمن استخدام أقل الوسائل تطرفا شريطة ان تكون متناسبة مع الهدف فعندما يكون لديك مجموعة من المتظاهرين في ساحة التحرير متجمعين او معتصمين فلن يكون من المتناسب استخدام الغازات المسيلة للدموع لفضهم ، ناهيك عن ان استخدام الأسلحة النارية لفض المظاهرات السلمية غير قانوني على الإطلاق. في حالة تطور الاوضاع الى استعمال العنف من قبل بعض المتظاهرين مثل القاء الحجارة مثلا أو بزجاجات المولوتوف فإن لقوات الأمن الحق في الاستخدام المشروع للقوة بالدرجة المطلوبة وإنما في أدنى حدودها وبأقل خسائر ممكنه ، وفي كل الأحوال فإن تعميم استخدام القوة على جميع الموجودين في محيط المظاهرة السلميين وغيرهم ، أمر غير قانوني. كما لايجوز للقوات الامنية استعمال الاسلحة النارية مادام العنف المستخدم من قبل المتظاهرين لايشكل تهديدا قاتلا لافراد الامن وان يكون هدف تلك القوات منع الموقف من التفاقم، وتقليل وتيرة العنف حتى وان كان الانسحاب من ضمن الخيارات لمنع تفاقم الوضع. كما ان حماية الممتلكات العامة والخاصة لا يمكن أبدا أن يبرر الاستخدام العمدي للأسلحة القاتلة فاستخدام القوة القاتلة يجب ان يكون محدودا في حماية الارواح فقط لذلك لايجوز لقوات الأمن التي تفض المظاهرات حمل الاسلحة التي لا يقرها القانون.كما يحظر على قوات الأمن ضرب أي شخص لا يبدي مقاومة أو ملقى على الأرض أو فاقد للوعي، أو هتك عرض أي شخص، جميعها تعد جرائم يعاقب عليها قانون العقوبات بالسجن، وعندما يكون مرتكبها أحد أفراد السلطة العامة تكون العقوبة مشددة.فعمل قوات الامن يجب أن يستهدف الأشخاص الذين يخرقون القانون ولايجوز استهداف أي شخص آخر وبضمنه استهداف الصحفيين أو المواطنين الذين يصورون ما يحدث بالصور أو الفيديو.
حتى في حالة وصول الامور الى ضرورة استخدام القوة فان هناك محددات من ضمنها حظر استخدام الأسلحة غير القاتلة والتعجيزية بشكل قد يسبب الوفاة أو يتسبب في إصابة أشخاص غير متورطين،فلا يجوز استخدام الذخيرة المطاطية ضد الجزء العلوي من أجساد المتظاهرين، وقنابل الغاز لا يجب استخدامها بشكل مفرط ويحظر تماما استخدامها في أماكن مغلقة، ولا يجب تصويبها على الأجساد، ويجب أن يقيد استخدام قنابل الغاز في المناطق السكنية. لا يمكن تبرير إطلاق الرصاص الحي على رأس أو صدر شخص إلا في حال ما كان هذا الشخص على وشك أن يقتل أو يصيب شخصا آخر إصابة بالغة، على سبيل المثال يوجه مسدسا عليه، وعندما يكون هذا هو السبيل الوحيد لمنعه من القيام بذلك.
مما تقدم نجد ان ردود افعال الحكومة سواء على مستوى الامن او الاعلام او السياسة قد ساهمت باثارة الشارع الغاضب اساسا من فشل الحكومة في تنفيذ كافة وعودها وخصوصا في ملفات مكافحة الفساد المالي والاداري وملف التعينات الحكومية وملف الخدمات . كما ان اسلوب الحكومة في التعامل مع طبقة محددة من المجتمع قد اثبتت فشلها فالمطاهرات الحالية خرجت من القاعدة وليس لها ممثل ضمن الطبقة التقليدية التي انفصلت كليا عن المجتمع . الا ان اخطر مرحلة هو فشل الاجهزة الامنية في التعامل مع غضبة شعبية كانت تقتضي من المسؤولين الاستماع لمطالب الشعب قبل ان تصل المسائل الى مرحلة كسر العظم . يجب ان تدرك الحكومة ان العالم قد تغير فلايمكن استخدام القوة في قمع المظاهرات الشعبية هما كانت المبررات والاسباب فحقوق الانسان في التعبير عن راية مهما كان هذا الرأي يجب ان تحترم .