23 ديسمبر، 2024 5:20 ص

خرجت صباح اليوم السبت , الحادي والثلاثين من شهر آب ( أغسطس ) سنة 2013 م مظاهرات شعبيّة عراقية في العديد من محافظات العراق , طالبت بإلغاء تقاعد الرئاسات الثلاث والبرلمانيين وأعضاء مجالس المحافظات وأصحاب الدرجات الخاصّة .

جهود جبّارة :
لقد بذلت الشخصيات العراقية المستقلة المتطوِّعة لهذا النشاط ومنظمات المجتمع المدني والنقابات والتنظيمات المدنيّة والديمقراطيّة جهوداً جبارةً , من أجل إنجاح المظاهرات , منذ إنطلاق الحملة وبدء التحشيد لها قبل نحو شهرين . 
وبغض النظر عمّا إذا كانت ستحقق المظاهرات في الأخير مطلبها , أم لم يتحقق , من خلال إمتناع البرلمانيين عن الرضوخ لإرادة الجماهير , فإنها قد منحتنا مجسّاً مجانيّاً , قسنا من خلاله مدى قدرة العراقيين – غير المتحزبين – على التحشيد والنزول إلى الشوارع .. وبالتالي إصرارهم على رفع مطاليبهم .
في ضوء تجارب المظاهرات التي نزلت إلى الشوارع في العراق منذ 2003 م وإلى اليوم .. فما كان منها منظّماً ووراءه أحزاب , إستطاعت أن تثبت للآخرين بأن لديها قواعد وأتباعاً , وأن تجد لها مكاناً في الساحة السياسية العراقية . وما كان منها عفوياً غير منظمٍ , إنقضَّت عليها السلطة وفتتها , أو هي تلاشت وأجهضت نفسها بنفسها .
مظاهرتنا اليوم كان وراءها شعب غير متحزِّب ولجان تنسيقيّة ومتقاعدون ومتضررون ومتطوعون موقعون على التظاهر في الموعد المقرر . لم تكن مظاهرة عارمةً , ولكنها كانت مُفزعةً للسلطة .. ولهذا واجهتها بالقمع والمنع وإطلاق النار .

لماذا الرواتب التقاعدية ؟ :
ولكن السؤال الذي يطرح بإلحاح هو : لماذا التظاهر ضدَّ موضوعة رواتب تقاعدية , وليس ضدَّ غيرها من الموضوعات المهمة ؟ هل مثلاً حسداً من الناس الفقراء لما يتقاضاه هؤلاء البرلمانيون وغيرهم من رواتب وامتيازات ؟ أم إن هناك أسباباً أخرى وراء الدعوة للتظاهر ولهذه المطالبة تحديدا ؟
الجواب : بالطبع ليس حسداً لأحد , بقدر ما هو نكايةً بأناس لا يستحقون ما يتقاضونه , مقابل لا شيء يفعلونه , سوى تحصين أنفسهم وعوائلهم , وترك الشعب العراقي لمصيره المظلم . مقابل التصفيق لكل ما يأمرهم به أسيادهم , من زعماء التحالفات ورؤساء الكتل والمُنَصَّبين قادة على العراق وشعبه من قبل الدول والحكومات المعادية للعراق وشعبه . مقابل أن يشكّلوا لنا حكومات تافهة , وينصِّبوا علينا أوغاد وقتلة وسرّاق المال العام , في صفقات بائسة , ووفقاً لنظام محاصصة بغيض .
مقابل خدمة ( 4 ) أربع سنوات , نصفها عُطَلٌ وإجازات , بينما النصف الآخر موّزعة بين غيابٍ وتغيّبٍ عن حضور الجلسات , وسفرات وإيفادات , وجلوس في كافتريا البرلمان ( لدك الفج ) والتآمر على الآخرين وبيع الذمم وشراء المواقف والتصويت .
ليس حسداً من الفقراء , بقدر ما هو مطالبة بتحقيق العدالة في توزيع الثروات , ومكافأة للعاملين من أجل العراق وشعبه , من دون تمييز . لقد ظلَّ الداعون إلى التظاهر يتحدثون دوماً عن سرِّ منح النواب وغيرهم كل تلك الأموال والإمتيازات , مقابل ( 4 ) أربع سنوات خدمة بالبرلمان نيابة عن ناخبيهم ؟! بينما غيرهم من موّظفي الدولة يقضون ( 30 – 40 ) ثلاثين إلى أربعين عاماً في الوظيفة والدوام الرسمي , ليخرجوا براتب تقاعدي من ( 200 – 300 ) مائتين إلى ثلاثمائة دولاراً أميركياً .
لعل أحد أغرب الأسئلة التي يطرحها الإعلام بغباء واضح , هو : إذا منعتم الراتب التقاعدي الكبير والإمتيازات عن هؤلاء , فإلى أين يذهبون , ومَنْ الذي يتكفل حياتهم ما بعد البرلمان ؟ عجيب !
الجواب , هو : ومن أين جاء أغلب هؤلاء المنقطعين ومقطوعي الجذور أصلاً , حتى نحمل نحن همهم ونفكّر بالنيابة عنهم , ومن ثم نتساءل : إلى أين يعودون ؟ يعودوا من حيث أتوا , ومَنْ لم يكن عنده وظيفة , يُمنح راتباً تقاعدياً معقولاً , وليس خيالياً .

خطّة إستراتيجيّة :
لعل أحد أهم الخطط الإستراتيجية التي يعمل عليها أصحاب القرار السياسي من متقاسمي السلطة في العراق , والتي لا يدركها المواطن العادي , هي : إنهم يزعمون بأنهم يريدون أن يخلقوا طبقةً سياسيةً عراقيةً , قوامها – بالقليل – ألف عراقيّ على مدى ثلاث دورات إنتخابية , يكون فيها هؤلاء مكتفين ذاتيّاً وممتلئين ماليّاً , لا يحتاجون إلى أحد , كي يسيّروا الدولة العراقيّة مستقبلاً !
على الرغم من أن هذه الخطة سخيفة لا تستحق الرد والنقاش , كون هؤلاء سيبقون ذيولاً لمن صنعهم وهيأهم للحكم والتحكم بالعراق , يسيرون على النهج ذاته والمخطط نفسه . أي بمعنى ( لا طابت ولا غدا شرها ) بيد أننا سنقبل برهة بهذا المنطق لنتساءل : وهل تمّ إختيار هؤلاء البرلمانيين وفق مواصفات قيادية حقيقية ؟ لا بل : وهل مَنْ إختارهم هو قائد أصلاً – ونحن نعترف به – كي يختار لنا هو هؤلاء المرتزقة المأجورين ؟
ثمة ثلاث ملاحظات قدّمتها مظاهرات اليوم .

العزوف وتبريره :
الاولى : لم تخرج المحافظات في الوسط والغرب , ذات الغالبية السُنيّة للتظاهر مع المحافظات الجنوبية , ذات الغالبية الشيعية , وبغداد , ما أعطى إنطباعاً وكأن المظاهرات كانت طائفية , وبالتالي مطالباتها طائفية هي الأخرى . ولعل أسخف وأتفه تبرير سمعناه من أحد قادة الإعتصام في ساحات الأنبار , هو أن تظاهراتهم تظاهرات عزٍّ وكرامة . أما تظاهرات اليوم فهي لمطالبات مادية !
إن هذا النوع من الطرح الوضيع , الذي لا يستقيم مع الواقع والمنطق الصحيح , سيعزز الإنقسام بين أبناء الشعب الواحد , وسيزيد من الشرخ الطائفي بين أبنائه . لقد خرجت مظاهرات اليوم مشتركاً فيها كل أبناء الشعب العراقي , من دون تمييز بين طوائفه وأعراقه ومنطلقاته الفكرية , سيّما في بغداد .
كما إنه ليس هناك مظاهرات من أجل كرامة وأخرى بلا كرامة , وليس هناك أحد في العراق يزايد العراقيين على كراماتهم , من منطلق طائفي نجس .

خيبة الإعلام :
الثانية : لم تحظَ مظاهرات اليوم بتغطية إعلامية مباشرة من قبل المحطات الفضائية العراقية كلها , باستثناء قناة ” البغدادية ” على الرغم من أن عدداً من المحطات الفضائية كانت ترافق المظاهرات وتصوّرها . ولأغراض تجنّب النقد والإتهام بعدم المهنيّة والحرفيّة , بثت بعضها تقارير خجولة في نشراتها الإخبارية اللاحقة , تحدثت عن المتظاهرين ومطالباتهم .
إن هذا التعتيم الإعلامي القذر الذي تمارسه المحطات الفضائية العراقية – الرسمية منها وغير الرسمية – دلل على تفاهة هذا الإعلام , وحقارة القائمين عليه , ووضاعة مموليه وأربابه . دلل على جُبنِه واسترزاقه ومسايرته لسياسة السلطة وإعلامها .. بما يعيدنا إلى أيام صدام ونظامه وأجواء المصادرة والتعتيم التي كانت تخيّم على العراق لعقود من الظلام .
هذا الإعلام لا يستحق منّا إلاّ أن نهينه ونستخفّ به , ونحتقر العاملين فيه ونبصق في وجوههم .

العنف في مواجهة المظاهرات :
الثالثة : لقد تعرضت مظاهرات اليوم إلى العنف والمواجهة والقمع للمتظاهرين , وإغلاق الطرق في وجوههم , وإعاقتهم عن الوصول إلى أماكن التظاهر المُعلَن عنها . لقد واجهت بعض قواتنا المسلحة – من الشرطة والأجهزة الأمنيّة – أناساً عُزَّلاً لا يحملون سلاحا , تظاهروا بسلام وهدوء ورُقيّ , واجهتهم بالسلاح , وإطلاق النار , والغاز المسيِّل للدموع , والضرب بالهراوات على الرؤوس والظهور والصدور . وهذا يعبّرُ عن أمرين مهمين .
1 – هلع السلطة وخوفها من المظاهرات المعارضة لها ولإمتيازاتها , على الرغم من تبجحها بالديمقراطية والحرية والعمل بالدستور .
2 – إمتثال الشرطة والأجهزة الأمنية لأوامر يصدرها طارئون على هذه المواقع القيادية , التي تتطلب أناساً محترفين في العمل الأمني والمسلّح , تنزل عند إرادة الجماهير وتحميها , بدلاً من أن تواجهها وتقمعها .

مرض عراقي :
لا أدري لماذا نحن العراقيين ما زال مرض التقليل من شأن الآخرين وجهودهم مستفحلاً في بعض نفوسنا ؟ فبدلاً من أن نساهم ونشترك بشكل فعّال في هذه المظاهرات , ننتقص منها ونقلل من أهميتها , ونثبِّط من عزائم مَنْ يخرج فيها ويدعو لها ؟ كان يفترض بهذه الأصوات أن تسكت , أو تلتزم جانب الحياد – في أقل تقدير – ما دامت هي ليست مساهمة فيها .
بودنا أن نسترسل في الحديث عن موضوع اليوم , بيد إننا نخشى أن نطيل أكثر من اللازم . لذا لا يسعنا إلاّ أن نتوّجه بالشكر والتأييد والشد على العضود والأيادي والحناجر التي صدحت , وهي تخرج إلى الشوارع والساحات في مدن العراق , مطالبة بحقوقها وتشجب مغتصبيها . كما ندعوهم إلى التهيؤ والإستعداد لإخراج المزيد من المظاهرات مستقبلاً , لتطالب بحقوق أخرى , وتشجب إنتهاكات أخرى . نشكر القوى الأمنيّة والشرطة التي وقفت إلى جانب المتظاهرين وحمتهم ورعتهم وسهلّت لهم مظاهراتهم , ولم تستجب , أو تمتثل للأوامر التي صدرت إليهم طالبةً منهم قمعها وتفريقها .
كما نشكر السادة المحافظين الذين ساندوا المظاهرات وهيأوا ظروف نجاحها في محافظاتهم .
عاش شعب العراق عاش العراق .. وإلى المزيد من المظاهرات والمطالبة بالحقوق .