22 ديسمبر، 2024 1:38 م

مطاردة الثلوج في عصر التغير المناخي

مطاردة الثلوج في عصر التغير المناخي

عدتُ يوم أمس من سفرة إلى شمال العراق ، أقصد كردستان العراق (حتى لا يزعل إخواننا الأكراد) ، رغم معارضة معارفي وأصدقائي لثنيي عن السفر، متعللين ببرودة الجو وما يصاحبها من أمراض البرد ، وعدم صلاحية سيارتي القديمة لسلوك طرق متعرجة طويلة منحدرة ، وطيلة مدة السفر ، لم يكف رنين هاتفي للإطمئنان علي من فيضان آخر شهدته أطراف أربيل منذ أيام بعد الفيضان الأول منذ أكثر من شهر ، لم تشهد أربيل ، تلك المنطقة المتموجة والجبلية والصخرية مثل هكذا أحداث ، بسبب ضعف الدراسات البيئية أزاء جشع المستثمرين والذي أدى إلى تغيير بعض التضاريس وإن كانت صغيرة ، وبالتالي إختفاء الكثير من الوديان الطبيعية الصغيرة بسبب ردمها ، وهي مجارٍ طبيعية نحتتها مياه الأمطار منذ آلاف السنين .

أردتُ رؤية الثلج أولا ، ولإعتقادي أن السفر مغامرة ، وأن البلد أولى من بقية البلدان في السياحة ، يتحدّث الكثيرون عن البلدان المجاورة للعراق وما بها من أماكن سياحية ساحرة لا تنقصنا على الإطلاق ، والسبب الآخر هو أن السائح لن يضطر إلى رصد ميزانية كبيرة في مغامرته السياحية ، رغم ان كاتب هذه السطور ، لم يغادر حدود العراق لسنتمتر واحد ! ، أردت الهروب مؤقتا من الجو الرتيب ، والمغبر الملوث ، والطرق الوعرة التي كانت تُسمى شوارعا ، وتصرفات اصحاب (التكاتك) النزقة ، إلى حيث الهواء النقي والشوارع المعبّدة بعناية ولو كانت في أقصى المناطق النائية ، فهناك لم أسمع صوت نفير (هورن) واحد ! .

الجميع يتحدّث العربية في (شقلاوة) ، ربما بسبب طبيعتها السياحية ، وهي المكان المفضّل لديّ لطيبة أهلها ولتنوع سكانها وبيئاتها وطبيعتها الجميلة وقربها من الكثير من الأماكن السياحية الأخرى في محافظة أربيل ، ولكن كلما إبتعدتَ عنها تضعف تلك اللغة إلى درجة التلاشي تقريبا ، وتصبح الأمور اكثر صعوبة في التفاهم ، خصوصا في (حاج عمران) ، فحتى قائمة الطعام (Menu) لديهم مكتوبة بلغتين ، كردي وفارسي فقط لقربها من الحدود الإيرانية ، ولكن للأسف لم أستطع الدخول للمنتجع ، لأن طرقه طينية وشديدة الإنحدار لا يمكن تسلقه إلا بسيارات الدفع الرباعي ، فكيف بسيارتي القديمة ذات الدفع الخلفي ؟! ، لكن الطريق من شقلاوة إلى هذا المنتجع ، إستغرق ساعتين ، كان جمال الطبيعة وسحرها ، بأنهارها وصخورها وجبالها بل وبسمائها يستحق كل دقيقة ، كانت البلدة الوحيدة التي أتحفت عيوننا بجبال مكسوة بأكملها بالثلج ، لكنه للأسف كان صعب المنال .

حدّثني الكثير من أهل شقلاوة وقد صاروا أصدقاءً لي ، أن هذه المدينة ومنذ 5 سنوات خَلَتْ ، كانت تشهد سقوطا كثيفا للثلوج ، بحيث يعزلها عن مناطق باقي مناطق الإقليم ، ومنذ ذلك الحين ، لم تشهد هذه البلدة ، سقوط ولو شذرة واحدة من الثلج ! ، وهذا مثال صارخ على التغيّر المناخي ، وفي العام الماضي ، شددتُ رحالي إلى شقلاوة في تشرين الثاني /نوفمبر 2020، وفي نيّتي رؤية ثلوج جبل (كورك) قرب (راوندوز) الجميلة ، عن طريق (التلي فريك) رغم كلفته العالية (10 آلاف دينار للشخص الواحد) ، وقد نعمنا بساعات من ثلوج كثيفة غطّت قمة هذا الجبل ، والذي يسمونه (جبل الرادار أو المرصد الفلكي) ، وأعدت الزيارة إلى هذا الجبل منذ ثلاثة أيام متيقنا أن الثلج سيصل للخاصرة ، خصوصا في كانون الأول/ديسمبر ، أي بعد شهر من زيارتي إياه في العام الماضي ، وعند وصولي إلى منطقة صعود (التلي فريك) ، شعرت بمرارة ، فقد كانت خالية تماما من السياح ، سألتُ الرجل المسؤول عن جباية (التلي فريك) عن حال الثلوج هناك ، فأجابني (هل تريد أن أكذب عليك ؟ ليس هناك ذرة من الثلج على جبل كورك ، متأسف جدا)! ، مثال صارخ آخر عن التغير المناخي .

إستبشرتُ خيرا وانا أشاهد بلحظات فرح نادرة سقوط الثلج على بغداد في 11 شباط/فبراير من عام 2020 ، ما يقارب الساعة السادسة صباحا ، إحتدمت كل المشاعر في رأسي وأنا أشاهد رقائق الثلج تأتي من السماء ، من فرح وتفاؤل وإعجاب ولا أدري لماذا قد حشر الحزن نفسه وسط هذه الإنفعالات ، ورأيت الأرض تكتسي بطبقة من السجاد الأبيض الجميل المرهف والنادر ، حبّات من الماس الأبيض تُنثَرُ بحنوٍ على الرؤوس ، كأن يدأ سماويةً تُرَبّتُ بلطفٍ عليها ، لكن سرعان ما توقف هطول الثلج هذا ، مذكرا إياي أن لحظات الفرح نادرة وهذا قدرنا ، وإن كان ثلجا ينهمر وقد إعتادت عليه الكثير من شعوب الأرض ، فهو وإن كان مجرد ثلج ، إلّا أنه أكثر “دفئاً” بكثير من هراء الإنتخابات وما يسمونها العملية السياسية التي آلت إلى “إنسداد” ، لا يأتي بعده ، إلا الطوفان ! .