لا استطيع ان اصدق الذي سمعت…لهذا بقيت لبرهة من الزمن فاغرا فاها لم انبس ببنت شفة.
عرفت محدثتي اني لا استطيع ان اصدق ما تفوهت به من كلمات فأشاحت بوجهها عني وتمتمت قائلة :- (مع السلامة).
خطت بضع خطوات وانا ارقبها ثم توقفت والتفتت الىَّ قائلة:-
لا اراك صدقت حديثي …شكرا على كل حال…الله وحده يعلم الحقيقة لكني
اطلب اليك ان تسأل (أبو نادم)عن الامر فهو أعرف بتفاصيله ودقائقه وحقائقه.
ازددت عجبا اذ ان (ابو نادم )رجل عمل في المعارضة وهو على علاقة وثيقة بأغلب السجناء السياسيين المعارضين في الزمن الماضي الذين كتب الله لهم ان تمتد اعمارهم ولا ينتهي بهم الامر الى الموت تعذيبا او اعداما.
…..
عادت الصورة الى مخيلتي وانا انقل خطواتي في الزقاق رقم (17) محلة (بني جلثم)في المدينة القديمة ,وحين اقتربت من الدار رقم (21) ودون ارادة مني رفعت يدي وضغطت جرس الدار ,لم البث سوى لحظات خلتها الدهر وفكرت خلالها ان امضي مبتعدا كي لا أكون وجها لوجه امام الحقيقة التي لا يكاد فكري يستوعبها, لكني تسمرت الى مكاني لا أريم حين تناهى الى سمعي صوت امرأة تسأل(من هناك)…؟
انا (ابو جابر)هل ابو نادم هنا …اود مقابلته.
رجعت المرأة الى داخل المنزل ثم سرعان ما فتح لي الباب صبي في العاشرة من العمر واشار لي بيده …تفضل الى الصالة جدي يستأذنك الانتظار لبضع دقائق.
دخلت الصالة والسؤال يلح في فكري ولا يكاد يستوعب الامر الذي حدثتني عنه تلك المرأة.
كيف …كيف يمكن ان يكون ذلك…؟هو السؤال الذي حيرني مذ سمعته والى غاية اللحظة التي انا فيها.
ايقظني من التفكير صوت ابو نادم مرحبا
يا الف الف اهلا …الف الف سهلا بأخي العزيز …كم اشتقت لك لقد طالت غيبتك …تعبنا من السؤال عنك….
كلماته متلاحقة ولا يترك لي مجالا للرد …هكذا مذ عرفته زمن الصبا والشباب (ابو نادم )لم يتغير شيء فيه سوى اشتعال الشيب في مفرقه وبعض غضون بدأت ترتسم على صفة وجهه لكن مازالت عيناه محتفظة بلمعانها وحدة نظرها .
هتفت وهو يعانقني بحرارة
ارجوك …ارجوك …اترك لي مجالا للرد واضفت:
كيف انت …؟ماهي اخبارك…؟لقد اشتقت اليك كثيرا.
اشتقت اليَّ -كرر عبارتي –واضاف معلقا ولهذا لم تتصل بي قبل هذا الوقت .
تعلم انني لم اعد الا منذ فترة يسيرة .
حتى وان كان ذلك ..اما كان الاجدر بك ان تتصل بي ,ان تخبرني بعودتك.
اضاف ضاحكا (عمي ما اريد منك صوغة) …ثم بعد لحظة اضاف:
(عمي جان جبتك ويايه هدية تعبر عن اعتزازي وفرحي برجوعك سالم).
آه…الكلمة الاخيرة اعادت لي ما كلفني هذا الرجوع سالما من معاناة والم.
استعرضت الكثير من عذابات الغربة وفوبيا الملاحقة وعدم الاطمئنان حتى لأقرب المقربين في بعض الاحيان .
ذكرتني بويلاتي وخيباتي وفجيعاتي وهي كثيرة فأنا من الذين لا يستطيعون ان يخفون مشاعرهم وافكارهم وقد نبهني الكثير من الاصدقاء الى ضرورة الالتفات للأمر لكن أبدا” لم استطيع ان اكون إلا انا حيث اكون دون وجه أخر او لسان أخر أو قلب أخر 0
ها ابو جابر…؟
غالي ابو نادم تعرف الامور التي مضت وسنوات الغربة اخذت مني كل مأخذ اني جاي حتى اسقر واعود الى حياتي الطبيعية 0
الف اهلا” وسهلا بيك الجميع يرحبون برجوعك ويتمنولك التوفيق .
اخبار الاهل والاقرباء والاصدقاء …
كلهم بخير فادي ومحمود وعبد الحسين …كلهم بخير هم وعوائلهم وأبشرك رجعت لوظيفتي بمديرية الاسكان واستقريت بيتنا القديم ، تعرف الوالد انطاك عمره والوالده طلبت مني ان اقيم بالبيت لان الاخوان والاخوات كلهم اتزوجو وطلعوا وما ظل بالبيت الا اولاد اخويه الشهيد ( عماد ) .
تململ في مجلسه عند ذكر اخي الشهيد عماد وارتسمت على صفحة وجهه غلاله من الحزن والاسف ثم ما لبث ان سألني وامهم اين هي…؟
لقد تزوجت وتركتهم لوالدتي.
قال كمن يقرر حقيقه … ذلك أفضل لها … هنا وجدت الفرصة سانحه لأتوجه له بالسؤال الذي شغلني ولا استطيع استيعابه فسالته قائلا”
ارجوك ابو نادم … هل هناك امر ما تعرفه ولا اعرفه انا ..؟
حاول ان يتجاهل الامر بادئ ذي بدء ولكني اقسمت عليه ان يقول الحقيقة والحقيقة فقط وان كانت قاسية ومؤلمة وقاتلة.
………………
نظر اليَّ بعينين حزينتين وبعد برهة من الصمت قال:-
ما كان يجب ان يحدث هذا…
ماالذي حدث …؟
انت تعلم ان اخوك الشهيد كان ملازما في الشرطة وبعد فترة وبأمر رئاسي تحول الى ضابط في الجيش وانت كما تعلم بأن التزامات الضابط في الجيش هي اكثر واشد من التزامات الضابط في الشرطة وقد حدث نزاع بين الشهيد عماد وضابط اعلى منه رتبة فحاول الاخير الايقاع به وزجه في السجن لكن اخاك استطاع الهروب من السجن بمساعدة بعض الاصدقاء المخلصين وعاد الى البيت وكان ذلك سببا لحدوث مشاكل في الاسرة فكانت زوجته وام اولاده تضيق ذرعا بوجوده في المنزل خاصة حين لم يكن يستطيع ان يوفر لها ما تعودت من بذخ وترف.
…توقف عن الكلام فقلت له مشجعا اكمل الحديث فأنا على اتم استعداد لأعرف الحقيقة …
لقد اخبرتني شقيقتي لكن فكري لا يستوعب هذا الامر ,لذا اريد ان اعرف الحقيقة التي عرفها الجميع وبقيت غائبة عني .
قال معترضا كلامي ومستنكرا قولي .
من قال لك ان الجميع يعرف هذه الحقيقة ان اغلب الاقوال لا تحمل الصدق دون برهان .
نظرت اليه متضرعا وهتفت :
لذا جئت اليك فأنت بلا شك تملك هذا البرهان وسوف لن تخذلني …انني ارفع اليك طلبي في معرفة الحقيقة مشفوعة ببرهان.
انه اخي …اخي وانت تدرك مبلغ ما يعني ذلك…
صديقي الغالي انك تكلفني من الامر ما لا يطاق…ارجوك لا تجعل لقائي بك بعد طول غياب سببا لشقائي وشقائك وبعد لحظة صمت هتف قائلا…اترك الامر ليس كل ما يقال هو الحقيقة .
لكن الحقيقة التي معك يؤكدها برهان قاطع.
من قال لك هذا …انا مثل غيري ليس لديَّ من وقائع سوى اقوال قيلت, وختم كلماته بعبارة – ترى من يملك الحق في ان يكشف الاوامر السرية خاصة اذا كانت مختومة بخاتم الجهات العليا.
هذا يؤكد لي ان لديك البرهان.
لا تتعجل بالحكم …كثير من البراهين اثبت الزمن زيفها وتزويرها.
لكن زوجة اخي هي التي وشت به واسلمته الى الجلادين ,حقيقة ولها برهان انت تملكه ولكنك لا تريد ان تخبرني بها وهذا يؤسفني.
نهضت مستأذنا للخروج …تقدم مني وشدَّ على يدي …قال لي عبارة واحدة:-
صديقي الغالي لا تغضب مني ,(لقد مضى الزمن فماذا ينفعك ان تعرف الحقيقة).