18 ديسمبر، 2024 5:26 م

مضمون المجتمع المدني والأصـــل

مضمون المجتمع المدني والأصـــل

مقدمة
من الممكن أن نتسأل عن مضامين المجتمع المدني وأصلها ؟ وماهية مؤسساته ؟ وما هي موارد ومتطلبات نشأة هذه المؤسسات ؟ وكيف يمكن الاعتماد عليها واستعمالها لخدمة الفرد والمجتمع وبناء دولة المؤسسات ؟ .
أن من أهم مضامين المجتمع المدني لبناء الدولة هي : الديمقراطية التي تضمن وتحترم حقوق ومصالح مواطنيها وتجعل من السلطات العاملة فيها مؤسسات خادمة للمجتمع وليست مالكة له . ولفهم المضامين الرئيسية لنشأة مؤسسات المجتمع المدني التي تعتبر المقدمة المهمة والرئيسية لإدراك معنى وماهية الدور الوظيفي والجمعي للفرد والجماعة في الدولة والمجتمع , ولا يمكن الحديث عن مجتمع مدني حقيقي في ظل غياب كامل أو شبه كامل لمستلزمات وجوده , وهذه المستلزمات تأخذ أبعاداً ومضامين متعددة منها سياسية , قانونية , اقتصادية , اجتماعية . ويمكن تتبع أصل مضامين المجتمع المدني على النحو التالي :-

أولاً :- المضامين السياسية والقانونية .
أن العلاقات الموجودة بين الأفراد والدولة , وبين الأفراد أنفسهم لا تنظم إلا بوجود القوانين لضمان الاستقرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي , ولكي تكون القوانين شرعية وتنال رضا الأفراد وقبولهم وارتياحهم بإطاعتها , يجب أن يكون مصدرها سلطة تشريعية منتخبة وضمن القانون الأساسي للدولة (الدستور) المقبول من قبل المجتمع , حيث يضمن استقلالية السلطات عن بعضها البعض بالإضافة إلى توزيع السلطات بين اكبر عدد ممكن من الأفراد والمؤسسات الوطنية , وبالنتيجة يقلل من مركزية الحكم والتسلط في الإدارة , والذي يهمنا هو مدى دور القوانين في نمو المجتمع المدني وفعاليته . لكي يكون هناك وسط ملائم وصالح لنمو المجتمع المدني .
لابد للدولة أن يكون لها قوانين تحمي حقوق الإنسان وحرياته في المجتمع , والنصوص القانونية سواء كانت مصدرها الدستور أو أي قانون أخر , بشرط أن لا تكون مجرد نصوص مدونة فقط أو بعبارة أخرى تكون بعيدة عن الممارسات التطبيقية , وكذلك تكون تلك القوانين مصاغة بشكل تمنع الدولة عن تغييرها أو تعديلها بدون الرجوع للشعب أو إيجاد منافذ للتهرب من القيود القانونية , لان السلطة قد تدفع بالمشرع القيام بذلك أو الوقوف على النصوص إذا ما اقتضت الحاجة ليفسر الأمور حسب مصالح الطبقة الحاكمة أو لصالح حزب أو طبقة معينة وخاصة في أمور تتعلق بتأسيس مؤسسات المجتمع المدني وحلها , هذا فان الحالة تختلف في الدول ذات النظام التسلطي حيث إما لا وجود بالأساس لتلك النصوص القانونية أو قد تفرغ من مضامينها , وهذا يعني عدم وجود للمجتمع المدني.
من مظاهر المجتمع المدني تفعيل دور سيادة القانون في المجتمع وتطبيق مبدأ المساواة بين الحكام والمحكومين , كذلك من اجل منع كل أشكال الاستبداد في السلطة والتي يجب ان تكون وسيلة لخدمة الشعب وليس لاضطهاده .
أما في المضامين السياسية فتتمثل من خلال الأنظمة الديمقراطية فيمكن ملاحظة ظهور مؤسسات المجتمع المدني فيها ولكن السلطة الحاكمة تفرض هيمنتها عليها بوسائل متعددة منذ بدء تأسيسها وبذلك تفقد هذه المؤسسات مدنيتها لأنها تعتبر أداة للتعبير عن برامج السلطة وقد تلجأ الأخيرة إلى حل تلك المؤسسات التي تنحرف عن سياستها والجدير بالذكر هنا أن قوة واستقلالية المؤسسات القضائية مؤشر جديد للتعبير عن وضعية المجتمع المدني في كل دولة . فكلما كانت تلك المؤسسات قوية وبعيدة عن تدخل السلطات والمؤسسات الأخرى كان المجتمع المدني أقوى والعكس صحيح أما في الأنظمة الديمقراطية والتي يسود فيها تطبق مبدأ السلطات على ساس التوازن وعدم التدخل فنلاحظ التوازن بين السلطة والمجتمع المدني واضح في كافة جوانب الحياة وتمتاز مؤسسات المجتمع المدني بالبروز والاستقرار والتعبير عن قيم ومصالح قوى وفئات مختلفة للمجتمع ولها قابلية الاستجابة للتغيرات والمستجدات العصري والدولة قادرة على إدارة وجل الصراعات والمنافسات الموجودة في المجتمع بأساليب الحوار الحضاري والوسائل السليمة الديمقراطية .
كما أن تقليل السلطة المركزية يعني تخفيف في أعباء الإدارة و المركزية والحد من سلطاتها أي تطبيق مبدأ اللامركزية في الحكم وبالنتيجة يؤدي إلى خلق حالة التوازن بين سلطات الدولة المركزية ومؤسسات المجتمع المدني وكذلك بين سلطات الدولة المركزية بعضها مع بعض ومؤسسات المجتمع المدني فيما بينها أيضاً وبالتالي فأن الحد من السلطة المركزية يخفف على عاتقها الكثير من الأعباء الإدارية والمالية وفي الوقت ذاته تحد من هيمنة السلطات المركزية وتقلل من ميلهم الاستبدادي وهذا الأخير متى ما ازداد فسوف يقضي على نشاط المجتمع المدني والديمقراطية معاً لذا يجب الحد من تلك السلطات عن طريق تشريع قواعد قانونية تكفل ذلك .

ثانياً :- المضامين الاقتصادية .
يمكننا أن نحدد أبعاد المضامين الاقتصادية وآثارها على المجتمع المدني من خلال النقاط الآتية :-
1- أن الذي يلعب دوراً رئيسياً في تحديد النظام الاقتصادي وتنميته في المجتمع هو الدولة , بسبب امتلاكها للوسائل والسياسات الرئيسية لتنفيذ خطط وبرامج اقتصادية وطنية بالإضافة إلى تأثيرها المباشر عل نمو وتطور المجتمع المدني كما أن شكل وايديولجية نظام الحكم من حيث كونه ديمقراطي أو استبدادي له تأثير مباشر على النمو الاقتصادي والتقني ولكن في حال غياب السلطة في المجتمع ولكي تستعد الدولة مستقبلا لتغيير نظامها الاقتصادي نحو الأفضل والمحافظة على ثرواتها الوطني فان العبء يقع على عاتق المواطنين والأحزاب السياسية الموجودة .
2- كلما زادت درجة التنمية الاقتصادية أنخفض معدل العنف السياسي , فالعنف السياسي ينخفض في النظم الديمقراطية نظراً لوجود مؤسسات سياسية قانونية تنظم العلاقة بين الحكام والمحكومين وتضبط الصراع الاجتماعي وقد أثبتت الدراسات بان هناك علاقة عكسية بين التنمية الاقتصادية والعنف السياسي في الدولة بالإضافة غالى أن علماء السياسة ربطوا التحول الديمقراطي والاستقرار السياسي بالتنمية الاقتصادية والرفاهية الاجتماعية وتوسيع نطاق المشاركة السياسية للمواطنين .
3- مدنية المجتمع تعني وجود الديمقراطية السياسية والأخيرة تعني تغيب للدكتاتورية الاقتصادية , حيث أن الدولة تنسحب من التدخل بشكل واسع في النشاط الاقتصادي للقطاع الخاص , وهذا الانسحاب يكون لصالح قطاعات المجتمع الأكثر عدداً من اجل رفع مستوياتهم المعيشية , وليس لصالح رجال المال والمصالح أو المقربين من مراكز صنع القرارات , وهذا الانسحاب يشمل مؤسسات المجتمع المدني أيضاً .
4- في الدول المتخلفة اقتصادياً قد لا يتوافر الحد الأدنى من الديمقراطية , لسواد مظاهر التخلف الاقتصادي , مثل انخفاض مستوى الدخل الفردي , وبدائية أساليب الزراعة , إذا ما قورنت بالتطور الذي تشهده الدول المتقدمة , وقلة استهلاك الطاقة الميكانيكية وبدائية الصناعة والتضخم في القطاع التجاري وازدياد لنسبة البطالة وكون تلك الدول غير منتجة أو مستهلكة , عليه يكون المجتمع المدني متلاشياً بسبب فقدانه لكل الشروط اللازمة لبنائه حيث تكون المشكلة الرئيسية لدى الأفراد هي تدبير لقمة العيش .
5- أن الأنظمة الديمقراطية الحقيقية يجب أن تتبع سياسة اقتصادية ليبرالية متوازنة ولا تحرم المواطنين من التمتع بالحقوق والحريات الاقتصادية وما يترتب على ذلك من أزمة اقتصادية تواجه المجتمع والتي تولد التخلف الاقتصادي كما هو الحال في المجتمعات غير الصناعية حيث أن الدولة فيها غالباً ما تحتكر النشاط الاقتصادي أو تتدخل فيه بصورة كاملة وكذلك تطبق الخناق على خصخصة الهياكل والمؤسسات الاقتصادية , لذا على الدولة القيام بإصلاحات اقتصادية وفسح المجال أمام القطاع الخاص بمزاولة نشاطاتهم الاقتصادية بعيداً عن تدخل الدولة ويكون دورها فقط إصدار أسس تنظيمية وإدارية لضمان حماية المصلحة العامة إلا في بعض المشاريع الاقتصادية ذات البعد الاستراتيجي التي تحتم تدخل الدولة فيها.

ثالثاً :- المضامين الاجتماعية .
لا يمكن توقع نشوء مجتمع مدني بدون بناء أسس اجتماعية سليمة تعتمد على إنها تأخذ المضامين التالية :-
1- أن إشاعة ثقافة المجتمع المدني تكون أسهل في المجتمعات التي تنجح في الوصول إلى حد مناسب ومعقول من التوازن بين المصالح الاجتماعية للأفراد , وهذا لا يعني بالضرورة انعدام التفاوت في المداخيل الذي يحصل بين الأفراد وتشابه في نظم توزيع الثروات والخيرات بل يشترط وبالضرورة وجود نظام توزيعي حقيقي وعادل بحيث يمكن تعايش الطبقات الاجتماعية مع البعض ويقلل من ظهور مواجهات متزمتة او تمركز الأموال فقط عند فئة قليلة مسيطرة , أن العدالة ليست معيار وحيد ونهائي لبروز الديمقراطية في كافة المجتمعات , ففي البعض منها يمكن لأسبقية الحرية في التقاليد الفكرية أن تغطي على درجة معينة من التفاوت الطبقي , لكن المواطنين في المجتمعات الفقيرة لا يفكرون بشيء آخر دون إيجاد حل مناسب لتفاوت طبقي شديد .
2- عملية بناء المجتمع المدني تفترض انفتاح التكوينات الاجتماعية التقليدية المتمثلة بالقبائل والاثنيات والأعراق والطوائف الدينية على المجتمع , والنظام السياسي وإدماج عناصر هذه التكوينات في ولاء رئيسي واحد هو (الوطن ) , وفي مفهوم واحد هو (المواطنة ) , وفي مؤسسات وظيفية بديلة عن التكوينات كالاتحادات والنقابات والأحزاب وغيرها لتجنب حدوث تشتتات ونزاعات داخلية بين القوى والتكوينات الاجتماعية في المجتمع خصوصاً لو كان هناك صيغة سياسية فعلية تتمكن من التعامل مع التعددية المجتمعية , بحيث تسمح لكل مكونات المجتمع أن تنال لكل واحدة نصيب عادل من الثروة والسلطة , لكي لا يكون الانتماء إلى هذه التكوينات مرتبط بمصالح اقتصادية واجتماعية معينة .
3- أن الثقافة السياسية من الثقافات ذات العلاقة المباشرة والمهمة لتحديد فعالية المجتمع المدني وعلاقته بالنظام السياسي , والذي يعتمد على نمط الثقافة السياسية السائدة في المجتمع , وبدونها ليس بالإمكان إقامة بنية سياسية و وحسب تقسيم “ماكس فيبر”هناك عدة أنماط للثقافة السياسية , بناءاً على ازدهار وتقدم المجتمعات , منها (ثقافة الخضوع) التبعية والتي تتلائم مع بنية سلطوية (أبوية) ممركزة , و(ثقافة المساهمة ) المشاركة والتي تتلائم مع بنية سياسية ديمقراطية , ففي ظل ثقافة الخضوع لا يتمتع الأفراد بالحقوق والحريات السياسية , بل أن النظام السياسي يكون كبديل عنهم في كل شيء , وعليه لا يمكن تصور وجود مؤسسات مجتمع مدنية وذلك لانعدام الأسس السليمة لممارسة الديمقراطية .
4- أن المواطنة عبارة عن رابطة طوعية بين الدولة والمواطنين برضائهم ووعيهم , والتي تقام على أساس تمتع المواطنين بالحقوق والواجبات دون تمييز .

خاتمة
تعبر المضامين السياسية والاقتصادية والاجتماعية والقانونية عن حالة من التكامل ما بين مؤسسات المجتمع المدني والدولة , وأن كل مضمون يعبر عن قوة وقيمة هذه المؤسسات لتحافظ على خطط لتطور لهذه المؤسسات قبالة الدولة , وفي الوقت نفسه يمكن القول أن حقوق الإنسان وحرياته إذا كانت محمية بالقانون ومحاطة بنظام سياسي ديمقراطي وقوة اقتصادية تحافظ على كرامة الإنسان وقيمته , وبنية اجتماعية تحمي المجتمع والفرد من أي تسلط خارجي تهدد وجوده فانه بالتالي ستخلق دولة قوية لان أساسها مبني على مجتمع مدني قوي .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
– علي عبد العزيز الياسري , دور مؤسسات المجتمع المدني في تعزيز الديمقراطية والأمن : العراق أنموذجاً , العراق , المركز الوطني للتخطيط المشترك , بغداد , ط 1 , 2009 .
– احمد شكر الصبيحي , مستقبل المجتمع المدني في الوطن العربي , مركز دراسات الوحدة العربية , بيروت , ط 1 , 2000 .
– حسنين توفيق إبراهيم , بناء المجتمع المدني : المؤشرات الكمية والكيفية , بحث في المجتمع المدني في الوطن العربي ودوره في تحقيق الديمقراطية , مركز دراسات الوحدة العربية , بيروت , 1992 .