حينما أطلت لمحت في عينيها بريق من حزن أكيد , عندما استقرت في مكانها , كنت ما أزال أتابعها بنظرات غامضة , أيقنت أنها تعاني من مشكلة ما …وهي منشغلة بإخراج أشيائها من حقيبة اليد , بعصبية واضحة بادرتها : لقد أخطئت في المجيء… هنا … رفعت رأسها , نظرت حولها , استدارت باتجاهي , أحسست أنها تثق بكلامي , فقالت : نعم. حاولت تركيز انتباهي , عما يدور أمامنا , بدا الأمر مضجرا برتابة مملة …. تطلعت للجدران , البيضاء اللامعة , تابعت بعيني , أقلب بطرفيها الاضوية المعلقة في السقف , النور المنبعث منها , يأت باستقامة لمقعدينا المتجاورين أراك عصبية المزاج .. أبدا … ولم العصبية ..؟ قصدت أنك متوترة … صحيح …. استدارت الفتاة الجالسة في المقعد الأمامي , أرادت مشاركتنا الحديث .. لكنها عزفت حين تصادفت , نظراتها مع نظرات جارتي المتوترة…. رحنا نصغي باهتمام لمحاضرة الرجل القابع خلف شاربه الأبيض … كان يواجهنا بثقته المفرطة .. شعرت بالعطش , رغم جو القاعة البارد … مضيت نحو براد الماء , حين أندلق الماء في جوفي أحسست بفراغ معدتي في مثل هذه الساعة من النهار … عدت لمكاني , لمحت ساقيها , حين فسحت المجال لي, لأمرق أمامها .. عدت لأجلس جوارها … بدت منهمكة في كتابة المحاضرة , وهي تمضغ اللبان , دون فتح فمها …. قلت لها : مادة المحاضرة جافة … لاخيار لنا سواها … راودني شعور بكتابة قصيدة حب .. فكرت بكلمات أخطها على الورق , بينما الجميع منهمك بتدوين المحاضرة … كتبت ببطيء : أنت لي مثل أنية الزهر أراها … ولاتصل أليها يدي … أنت لي … توقفت ..فكرت عميقا باختيار مفردة تليق بها , لمحتها تختلس النظر , بين حين وآخر لترى ما أكتب : أتمنى أنت لي ولست لأحد حين وقع بصرها على المفردة الأخيرة , اتسعت عيناها من الدهشة , أخذت الورقة رفعتها أمام عينيها , أغمضتهما بشدة , من تحت نظارتها المدورة , سالت دمعتها لاأحد يستأهل هذه الدمعة … قلت لها ذلك …. نظرت إلي بإمعان , بدا أنها تفكر بشي آخر بعيدا عني .. قلت : الحياة أكبر من حبيب غادر … التفت بنصف جسدها , نحوي وفي شفتيها , سؤال ينطق بلهفة : ما أدراك , بالذي قلته ..؟! قرأته في عينيك سكتت بصمت مطبق , لم أحاول إثارة مشاعرها , أكثر من ذ لك , بقيت أتابع ما يقوله الرجل , بشاربه المهتز في فترة الراحة , كنت ألهو بالحديث مع بعض الأصدقاء , شعرت بتفاهة اللغو معهم , فكرت بالعودة ومتابعة الحديث معها … وقفت أمام الباب الموارب , لمحتها منشغلة بالحديث مع الفتاة التي كانت تجلس , أمامنا , لم أحاول التطفل عليهما , لكنها تركت محدثتها وأقتربت مني , قائلة. هل تظن أننا نستفد من الحضور هنا … ؟؟ ليس الفائدة المرجوة … أحسست نظراتها , تخترقني بشدة , عدنا ثانية للجلوس متجاورين , بعد انتهاء الاستراحة : لقد أثرت الصداع في رأسي لماذا .. ؟؟ كيف علمت , ما أخبرتني به سابقا .. ؟! هل كان زميلا لك في العمل .. ؟! نعم … أين هو ألان ..؟ لقد سافر إلى الخارج … قالت ذلك بمرارة واضحة , شعرت أنها بحاجة لئن تخرج . من الدوامة … فقلت : هل أتصل بك ..؟ نعم … ولمرا ت عديدة , لكني لم أكلمه … لماذا …؟ عادت للسكوت , أيقنت أن شيئا داخلها يتهشم , وهي بحاجة للبكاء … حتى أتدارك الحرج الذي وقعنا فيه .. حدقت بالمحاضر الذي ما فتئ يتحدث بجدية مفرطة سعلت بشدة , حين التفتت الفتاة , الجالسة أمامنا , لتسألني : هل تستطيع استنساخ أوراق المحاضرة …؟ كانت تلوح بحزمة الأوراق التي بيدها لا … عادت لجلستها .. نظرت لجارتي , اكتست بالهدوء المعهود .. قائلة : لقد مضى عام على سفره … ألازلت تفكرين به …؟؟ أحسست بأن هناك من يراقبنا .. ونحن نهمس لبعضنا … أدرت رأسي للوراء , شاهدت امرأة بدينة تتطلع ألينا بعينين ناعستين , والابتسامة تعلو شفتيها , اعتدلت بجلستي , رأيت الغيرة في عيني جارتي , قالت : أحسست بالزهو داخلي … رحت أتابع المحاضر , الذي ما زال صوته مسموعا في القاعة …. بقيت تمضغ العلك , وتدون ما تسمعه. وضعت ساقا على الأخرى , مضينا نستمع باهتمام , في لحظة مربكة , انحرفت بوجهها المدهش اتجاهي همست : أريد السفر للخارج … تحاولين الهرب من معاناتك … ! كتبت لها على قصاصة … ( كوني كما أنت , ولاتكوني كما يريدون …) بهتت حينما أطلعت عليها … أردفت : أمي دائما تحدثني بإصرار , عن تغيير سلوكي , لكني أتساءل , كيف لك أن تعرف ذلك عني … أجبت والزهو يملئني : الحاسة السادسة … بدا أنها غير مقتنعة بأجابتي , بعدها مضينا نهبط السلم تشابكت أصابعنا , سرت داخلي رعشة مخيفة , وميض يتقد في تجاويفي , ارتجفت شفتاها مثل زهرة متوردة من الخجل … سمعنا أصوات أقدام تأتي من بعيد … افترقنا مبتعدين , حتى نتلافى ارتباكنا المضطرب قلت : ألديك جواز سفر .. ؟ نظرت مبتسمة وقالت لا… ولكن هناك من وعدني بإحضاره لي … في نهاية بئر السلم , شممت رائحة سيكارة .. أشعلت في رغبة عارمة لتدخين لفافة ,سحبت نفسا عميقا .. وصلنا بوابة الخروج .. قلت : أذن … حلمك السفر .. نعم … زعيق السيا رات , وهرج أصوات الباعة , يملاء الفضاء .. الشمس المشرقة ترمي بقوة, أشعتها الذهبية , على البنايات المكتظة. الأشياء مبهرجة مثل قوس قزح … ثمة بائع مرطبات , يحدق بنا من خلف أوانيه زاعقا : تفضلوا لم نعره اهتمامنا , مضينا نقطع الشارع , شعرت أن العالم ليس سوى رفقة طيبة , وعطر فواح , يأتي من امرأة تسحر لبي , تجعلني مهووسا بالفرح آلاخاذ , الأزقة تهمي رذاذا من طيور تعانق الأمل الجميل … تأكد لي إني أعيش بخرافة أسمها الحب … قلت مكررا سؤالي : إلى أين … ؟؟ رفعت كراسها .. خطت بقلم الرصاص: ( إلى أرض الله الواسعة … ) ضحكت بصوت عال , أثار انتباه المارة , ظلت مقطبة الجبين .. تستفسر بملامح وجهها المحمر خجلا , عن سبب ضحكتي المفاجئة والمجلجلة .. شعرت بها , هديل يرشح لحنا , لايعرف السأم … أيقونة كتبت عليها تراتيل محبتي صارت الزغاريد لحنا لفرح غامر يملئني .. أجتث داخلي أعواما عجاف … حسبت لحظتها , أنها لن تزول .. انبثق نهار يرسم البسمة , كإمضاء خجول لامرأة كتبت أبجديتها على صدري اللاهث بحثا عن الذاكرة المنسية … ولكي أطرد وهم مخيلتي قلت لها أنك امرأة حالمة … مترعة أزاهيرها بالندى , تربتها الندية بذرة خصب لأله يطوي المسافات , بحثا عن يقين راسخ في هيكلها المتنامي بأدغال سحيقة للود الطافح بعينيها قلت : أريني كفك .. ؟؟ وماذا ستفعل به …؟! كي أقرأ طا لعك … من صوتها الضاحك سمعتها تردد هذه موهبة أخرى .. ! كفها مشرع أمام عيني , مثل شراع صغير , لسفينة تائهة في بحر , متناثر بوله مجنون … يتمنى أن لا يفيق ابدآ .. قلت : أن خط الحياة عندك طويل … تأريخ جاثم منذ دهور… أنك تبحثين , عن كلمة فقدت من قواميسنا .. ماهي … ؟ ! الوفاء … أشتعل في عينيها لهب يتأجج ليسيل في جداول خديها … ثمة اشتهاء لرؤية طفل روحها , الذي يثب في مكان ما .. من ثنايا أضلعها , حيث يختبئ الإحباط المفرط من حبها الأول …. أنها تستسلم لشيء يعلق بمجرى ذكرياتها , التي لازالت تحتل مساحة واسعة من تفكيرها المر … بعذابات الفراق , حين يتشح الزمن بعد الأحبة بلون المساء … هكذا كان طعم الكلمة عندها … لما بادرتني : أرى أنك تقرأ أفكاري … وليس خطوط يدي ! ما وراء قضبان صدري , لمحت شخصا يبتسم , مثل ثعلب ماكر , يهوي لعبة الاختفاء … خلف ملامح وجهي الذي بقي مقطبا وجديا … قلت : هل تظنين ذلك …. ؟ كانت لاتقوى على السير , وأن هودجا , لجمل تائه يحملها في صحراء , لاقرار لها يئن من هول الفراق .. عجزت أن تكلمني .. وفي محاولة شعرت أنها ثقيلة عليها … قالت : أتمنى أن أختفي من الوجود …. هل بدأ اليأس يدب في مفاصلك … الخيارات أمامك متعددة … ماذا تقول … هل تريد أن أصبح حقلا للتجارب .. يكفي ما عانيت. هل جربتي .. جرعات الأيمان .. ؟! في زوايا الروح , تسيل ببطيء لزوجة من الرطوبة تدمر الجدران , لتوقد في ثنايا هياكلها ثقوب الخراب … عند نهاية الشارع افترقنا. احتجت ألتكلم معها … كان علي أعداد أفكاري بوضوح , بلا تردد .. أحدثها عن سبر أغوار الإيمان … حيث الروح تكون فراشة من نور … تطير في سموات صافية الزرقة , بعيدا عن العذابات الواهية … هو نسمة تلامس بشرتك بحنو مرهف , ينسيك الجدب المطوق أسوار أحلامك الممنوعة , وحبور رقراق , يتدفق مثل شلالات مترعة بالنفاذ الأبدي نحو النهايات السعيدة. الحقيقة المطلقة بلا مواربة … تسقسق عليها عصافير شجرة السد ر , المزروعة وسط الدار , ولا ترحل مطلقا غبش يأتي بعد ظلمة , لم نتكيف معها , يحمل أجراسه , لوقع رنينها يرقص المحال , لاشيء يمكث في سواحل الروح , سوى الالق الطاغي , في عنفوان يمور , مثل غابات الثلج , تمتد في أتساع لاتعرف الحدود كم أحتاج أن أراك ألان , من يأتيني بك الساعة .. !! بيني وبينك تمتد أزقة وأحياء لاحصر لها , تلتف ملتوية بكل الاتجاهات , تضيع بملامحها , خرائط صماء لاتخبرني عن شيء يسعف رغبتي المتأججة في الليل البهيم لاأجد غير طيفك يحل في مخيلتي , حورية تخرج من بحر لم تطرقه الأحاديث … ولا أحد غيري يعرف طريق الوصول أليه … لم يسكن سواحله سوى وهم الرمل , عن حكايا لفارس أرتحل صوب ميادين مغلقة النهايات , يتبدد في أراجيح اللهو , ضحكات , أضاعتها وقع أقدام , تهرب نحو الأفق المطبق على بوابة الشمس , بلا أمل في الرجوع