23 ديسمبر، 2024 12:59 ص

مصابيح المسبحة (مزاج المفاتيح) للشاعرة بلقيس خالد

مصابيح المسبحة (مزاج المفاتيح) للشاعرة بلقيس خالد

2-2
في )باب دائري( في المرقمة (1) لمست قراءتي أن الباب جزءاً من شفافية المعنى المكتمل ضمن صباح حديقة البيت. هو نص العطايا والتحاور : بشارة الشذا. شهادة العطر. طفولة الجوري.. هذا الاصطفاف النباتي وهب الذات مباهج معطرة تحتفي بالجميل وجعل الروح شفافة تخترق حجابا وتلامس العينان طرقات على الباب
(وأنا أرتشف استكانة شايّ
مثل أمنيات ٍ تستدعيني
طرقات ُ الباب…
رأيته، بل رأيتُ ظلّه مقرفصاً،
وظلُ ساعد ٍ يمدُ راحة ً
تسألنُي: بعض الندى)
النص هنا بتقنية حكاية شعرية قصيرة. وللشاعرة بلقيس خالد تجربة في هذا المجال وشاهد العدل (سماوات السيسم)
(*)
خلافا لهذه الحكاية الشعرية ستكون الحكاية الثانية. في الأولى كان المزاج النباتي رائقا وأجرى تراسلا مرآويا بديعا مع ذات الأنثى
وهي بدعة ٍ كانت ترتشف استكانة الشاي. في الحكاية الثانية الشمس مزرقة والظهيرة محمومة و(طرقٌ على الباب..) سيؤدي إلى فرار عصفورٌ وانكفاء فنجان قهوة ٍ – هنا تبرز مهارة الشاعرة- وهي تقترض كينونة من كائنات البن وتجسد المشهد بالعلامة المندلقة
(.. راسما ً على الصينية لوحة ً غرائبية )

(*)
للباب ذاكرة طرية تستعيد الجمال المجتمعي الآفل وبالتذكر يكون الراهن مداناً فهو الذي يرجمنا وما يزال بالتغرب والتباعد الأسري
(بحجر الفيروز في خاتم أصبعها تطرقُ الباب أمي
وكما عازف ُ البيانو بأطراف أصابعه ِ يطرق.. أبي)
في السطرين تكتظ سعادة الأبوي. سعادة الذات هي مرآة تعكس مجريات الحياة آنذاك.. أما ما يجري الآن فيعلنه السطر الثالث
(الآن.. كل ّ الطرقات غريبة).. والسطر الثالث يتناثر في (مزاج المفاتيح بشهادة هذه السطور
قلقٌ اللامعقول: صمتُ .. وطرقُ باب
أحيانا ينفث سُما باب الدار
في لحظة ما كُل الأبواب قابلة للكسر
ملفوفة ٌ بالقلق تعلقُ على الباب تعويذاتها
لن يتعافى بابٌ خلعته ُ رفسة ٌ
أطول من أعمار أصحابها أبواب النحس
البابُ يستغيثُ ثمة مَن يجلده ُ
ما الذي يجعل الباب َ يحتمل كل هذا؟
على باب ٍ يدُ الظلمة ِ ممدودة ٌ
باب ٌ منصوب في الهواء
لا أرى بابا! ولكن مَن يدقُ الباب؟
كل هذه العينات من الأبواب بوظيفة مرايا تعرّفنا إلى تنويعات القمع الممارس من قبل جهات شتى ضد أجنحة المواطن وخطاه التي يريدها هادئة الإيقاع.
(*)
الشاعرة بلقيس وهي ترصد التاريخ الخاص بوطننا من خلال الباب كعلامة اجتماعية/ تاريخية/ سياسية. ترصد بنبرة خفيضة زرقاء توصل لنا خطابها بنكهة شعرية. وفي رصدها لا تغلّق الأبواب في وجهنا . فهناك العديد من الابواب السعيدة في كتابها.. أما الأبواب المغلقة فكل مفاتيحها تنتظر القارئ
في (مسك الأبواب) و(بابك مفتوح للطلب والوغول) . هنا سيكون التاريخ ممزوجا بزرقة البطولة والمدد الإلهي. تغترف الشاعرة نصها الأول من حقبة فجر الإسلام وتعنونه (علي : الباب والراية) والمعركة هي بين بابين
باب بشري يحرس باب خيبر ترتجف
باب مدينة العلم
وينتصر باب العلم وما يتبقى توجزه الشاعرة
(الهزيمة : باب
والنصرُ: باب
والشهادة ُ : أوسع الأبواب)
تواصل الشاعرة نزهتها في عبق التاريخ الإسلامي ضمن جغرافية العراق
في نصها(بابٌ لمهبط النجوم).. ترصدُ الباب ومنقوشاته والشخصية التي سميّ الباب باسمه . وتتنوع تكرارات مفردة باب وينتهي النص مفتوحا بهذه الأسئلة
(هل كان العلاّمة الطوسي لا يدخل إلاّ من هذا الباب؟
هل بيت الطوسي وحده كان يجاور هذا الباب؟
هل باب بيت الطوسي يقابل هذا الباب؟)
في نص (باب الحوائج) يكون لكلمة باب معان ٍ ثرة ٍ
بابٌ حي
هو صفة لموصوف لا يتكرر
هو سابع الأبواب من العترة
هو أسد بغداد
هو الباب الذي ينادي الناس
يا لهذا العطر الذي لا يفني
يقضي حوائج الناس وهو هنا وكذلك وهو هناك
لولا خبرت الشاعرة بلقيس بالكتابة الصوفية لما سطع هذا النص الجليل
هناك باب لا مرئي بالنسبة لنا، لكنه ملموس ومحسوس والكل يلهج بهذا المجاز اللغوي الاقتصادي (باب الرزق) وهو كما تصف الشاعرة تماما :
(باب ليس من خشب ٍ، ولا مِن حديد أو زجاج) لكن حتى هذا المجاز اللغوي صيرّوه عرضة للخديعة ( بعضهم يزّيف بابا ويسميه رزقاً).. ثم تغدق الشاعرة علينا أحوال هذا الباب
بابٌ تبحثُ عنه القدمان
لن تنتزعه الأيدي
أحيانا يجاورنا ولا نشعرُ
أحيانا نركله، لكنه لا يغضب
لا يتملص
لا يتململ
لكل هذه المفردات : مفتاح واحد : (بابٌ مفتاحه ُ كلمة ٌ واحدة ٌ)
تعود الشاعرة عودة دينية وهي الثالثة في نصها (أبواب يعقوب)
تغترف نصها من سورة يوسف وتختزل لتلتقط ما يعنيها من الابواب
في السالب والموجب
هل رأى يعقوب اللامرئي البغيض
إذا نفذوا من باب واحد ؟
هل البابُ عينٌ حاسدة ٌ؟ راصدة ٌ
هل القص ُ : يفتحُ باب الخناجر
ثم يأتي الموجب المعادل
هل في ريح ذاك القميص
بابُ نورٍ لعينيّ يعقوب
غريرة ٌ أبوابك يا يعقوب
ولأبوابك غزارة المعنى في القميص
هذا النص قراءة خاصة للنص الأول الموجود ضمن سور القرآن الكريم
خصوصية هذه القراءة أنها قراءة تصوغ أسئلتها أبواباً.
(*)
نصان أراهما لا يقترضان مرجعا تاريخيا(باب الرزق) و(بابك مفتوح للطلب والوغول)
باب الرزق: بنكهة جماعية. لكن الباب الثاني : أشبه بخرزات مسبحة الصوفي. كل خرزة تزيد القراءة توهجا نورانيا. أقطف هذه المصابيح للقارئ
إلهي ما أكثرهم وما أوحدني حين لا أعثر عليك
على هيئة ندى كل َ فجرٍ تهبط آياتُ السكينة
إلهي أسألُك اللطف في كتابة غدي دفترا أبيض فتحتُ كفيّ
صامتة ٌ أرفع ذراعيّ أولست َ عليمٌ بذات الصدور
ولأني لا أملك إلا وزري طرقتُ بابك مطمئنة
بهذه الخرزات النورانية اختمُ القسم الثاني من مقالتي عن(مزاج المفاتيح) للشاعرة بلقيس خالد