تُعدُّ مشيخة عشيرة الراشد إحدى المشيخات العربية البارزة التي امتد صيتها في غرب الموصل وعموم محافظة نينوى. تاريخ عريق لهذه العشيرة الممتدة جذورها تاريخياً. وقد برز في هذا السياق اسم الشيخ فتحي الحسين، أحد شيوخ وأمراء القبائل العربية الذين عُرفوا بالمكانة الاجتماعية والسياسية الكبيرة، حيث تولى مشيخة العشيرة منذ مطلع القرن العشرين، تحديدًا من عام 1900م وحتى وفاته عام 1969م، خلفًا لوالده الشيخ حسين العبدالله الراشدي.
كتب المؤرخون عن الشيخ حسين العبدالله أنه كان رجل كرمٍ ومضيفٍ عامر، لا تغيب عنه صفات النجدة وإغاثة الملهوف. وقد برزت مواقفه في زمن القحط والمجاعة، خصوصًا عندما ارتفعت أسعار الحنطة عام 1917م إلى مستويات لم يستطع الفقراء تحملها، فكان الشيخ حسين يتبرع من ماله الخاص ويُطعم الجائعين حتى انجلت تلك الأزمة.
ولم يقف وحيدًا في هذه المحن، فقد ساندته شقيقته الشيخة خضيره العبدالله، التي خلد التاريخ اسمها بين نساء العراق البارزات. وقد أثبتت أن الكرم والشهامة ليستا صفتين مقصورتين على الرجال، بل هما خصال إنسانية تتوارثها الأرواح الكريمة رجالًا ونساءً.
ويُعَدّ الشيخ فتحي الحسين شخصية بارزة في تاريخ قبيلة الراشد، إذ كان له دور كبير في إعادة مدّ جسور العلاقات الاجتماعية مع جميع أبناء العشائر. كما تميّز بعلاقاته الواسعة مع المسؤولين في الدولة ورجال السياسة، إضافة إلى مكانته بين شيوخ العشائر.
وكان مضيفه يشهد سنويًا مجالس عامرة بالضيوف والوجهاء، مما عزّز مكانته الاجتماعية وزاد من احترام الناس له. وإلى جانب مكانته القبلية، كان الشيخ فتحي الحسين من أصحاب الأراضي الزراعية، ما منحه ثقلاً اقتصاديًا واجتماعيًا في منطقته.
ارتبطت مشيخة الراشد بقرية تل خزف، التي كانت بمثابة العاصمة الاجتماعية للعشيرة. ويذكر المؤرخون أن سبب التسمية يعود إلى التلال التي كان المنقبون يحفرون فيها فيجدون جرارًا وأواني فخارية، مما يدل على أن القرية قامت على حضارة قديمة ضاربة في عمق التاريخ.
وسكان هذه القرية ظلوا متمسكين بأصولهم العربية العريقة، ويفتخرون بانتمائهم إلى عشيرة الراشد التي تعود جذورها –بحسب المؤرخين– إلى قبيلة طي العربية الأصيلة. وما زالوا يعتزون بجدهم الأول، الشيخ حسين العبدالله، الذي صدر بحقه فرمان رسمي من الدولة العثمانية يقر بمشيخته ومكانته بين القبائل العربية.
بعد وفاة الشيخ فتحي الحسين، تولى نجله الشيخ عبدالله فتحي الحسين المشيخة عام 1969م، ليكمل مسيرة والده وأجداده. وقد عُرف الشيخ عبدالله بأخلاقه الكريمة وتواضعه بين الجميع، فكان قريبًا من الناس، محبًا لمساعدتهم دون النظر إلى انتماءاتهم القبلية أو الدينية.
منذ شبابه، كان شابًا نشيطًا اجتماعيًا، محبًا للعلاقات الواسعة، يشارك في المناسبات والفعاليات العامة. وتميز بصلاته المتينة مع شيوخ العشائر ورجال السياسة في العراق، ما أكسبه احترامًا واسعًا.
ومن المواقف التي تُروى عنه أنه كان ضمن الوفد الرسمي لمتصرفية الموصل، وقد أُعلن اسمه وهو في الثلاثينيات من عمره ضمن الشخصيات التي استُدعيت لاستقبال رئيس الجمهورية آنذاك الفريق عبد الرحمن محمد عارف في مطار بغداد، أثناء عودته من زيارة لجمهورية مصر العربية. وكان ذلك الحدث شاهدًا على مكانته بين رجالات الموصل والعراق عمومًا، إذ جرى التنسيق مع جميع عشائر العراق للمشاركة في هذا الاستقبال المهيب.
لم يكن الشيخ عبدالله مجرد شيخ عشيرة، بل كان رجل إصلاح، يسعى دائمًا إلى رأب الصدع بين الخصوم، وتوطيد أواصر الألفة بين أبناء القبائل. فبفضل حكمته وكرمه، توحدت الكلمة، وعمّت المودة بين الناس.
وبقي الشيخ متمسكًا بمهامه في خدمة العشيرة حتى وافاه الأجل المحتوم في عام 2022، تاركًا إرثًا من القيم والمبادئ التي لن تُمحى من ذاكرة أبنائه وأحفاده. وبعد رحيله، انتقلت راية المشيخة إلى ابنه الشيخ فيصل عبدالله فتحي، الذي حمل الأمانة على خطى آبائه وأجداده، مواصلًا نهجهم في لمّ الشمل، والحفاظ على وحدة العشيرة، وبناء جسور من العلاقات الطيبة مع القبائل المجاورة.
إن تولي الشيخ فيصل للمشيخة لم يكن مجرد انتقال للسلطة العشائرية، بل كان تجديدًا للعهد مع الماضي، واستمرارًا لمسيرة الأجداد الذين حفظوا العشيرة من التفرقة والضعف. فقد أظهر منذ الأيام الأولى لحمله هذه المسؤولية روح القيادة، مقرونة بالتواضع والحكمة، مما جعل أبناء العشيرة يلتفون حوله ويدعمونه.
وهكذا، فإن قصة الشيخ عبدالله ونجله الشيخ فيصل هي قصة وفاء ممتدة، تجسد القيم الأصيلة التي تربت عليها العشائر العربية: الكرم، الشجاعة، الحكمة، وحماية وحدة الصف. إنها سيرة رجالٍ سيظل التاريخ يذكرهم بصدقهم مع الناس، وبهيبتهم التي نالوها بالعدل والإخلاص، لا بالجاه والسلطان.
وللمعلومات العامه عزيزي القارئ فان عشيرة الراشد من العشائر الكبيرة المعروفة اليوم في محافظة نينوى وعموم ارجاء العراق وتتفرع منها أفخاذ وبيوتات عدة، يرأس كل فخذ منها شيخ كريم اختاره أبناء عمومته ليكون قائداً عشائرياً يمثلهم.
وعلى الرغم من تعدد الأفخاذ، فإن أبناء العشيرة يجتمعون دائماً في المناسبات العامة متكاتفين كيدٍ واحدة، يسعون إلى فعل الخير ونبذ التفرقة. فقد حافظوا على أصالتهم وقيمهم بعيداً عن تأثيرات العصر الحديث التي فرضت على الناس مفردات جديدة مثل الجاه الوظيفي والجانب المالي.
لقد تبين لنا من كلمات هذه السطور إن مشيخة عشيرة الراشد لم تكن مجرد منصب اجتماعي، بل كانت تاريخًا من المواقف الإنسانية والوطنية. فالأجداد أسسوا قواعد الكرم والنجدة، والآباء حافظوا على القيم، والأحفاد اليوم يحملون هذا الإرث العريق في وجدانهم. ولعل ما يميز الراشد أن مشيختهم كانت دائمًا عنوانًا للعطاء، وجسرًا للتواصل، وبيتًا مفتوحًا لكل محتاج، وهو ما جعلها جزءًا لا يتجزأ من تاريخ نينوى الاجتماعي والسياسي…