22 ديسمبر، 2024 6:17 م

مشهد العراق الانتخابي.. غموض وتخبط وارتباك

مشهد العراق الانتخابي.. غموض وتخبط وارتباك

رغم انه لم يتبق على موعد اجراء الانتخابات البرلمانية العراقية المبكرة سوى شهرين، الا ان الصورة تبدو ضبابية ومشوشة ومرتبكة الى حد كبير، في خضم تقاطع المواقف والاتجاهات، وتصاعد التشكيك والاتهامات، واضطراب الميادين والجبهات، وذلك الغموض والتشوش والارتباك، يرسم مسارين او يضع احتمالين، اما تأجيل الانتخابات الى موعد اخر، او ان نتائجها ومخرجاتها لن تأت بجديد يمكن من خلاله تحقيق اصلاحات وتغييرات حقيقية يتطلع اليها جمهور واسع من الشعب العراقي.

ولعل العودة قليلا الى الوراء، للاحاطة بظروف وخلفيات قرار اجراء الانتخابات المبكرة، تتيح فهم مجمل التفاعلات والتداعيات الراهنة. فنقطة الانطلاق الرئيسية للانتخابات المبكرة، تمثلت بالتظاهرات الاحتجاجية التي اندلعت في مختلف مدن ومحافظات البلاد، في شهر تشرين الاول-اكتوبر من عام 2019، ورفعت الكثير من الشعارات والمطاليب الاصلاحية، وبمشاركة اطراف وشرائح وفئات اجتماعية وسياسية مختلفة، دون ان يعني ذلك ان العامل الخارجي كان بعيدا عن دائرة الحدث ومحركاته وفواعله.

ولان المرجعية الدينية في النجف الاشرف، كانت قد شخصت قبل ذلك، الخلل والضعف، ورأت ان هناك ضرورة ملحة لاصلاح الاوضاع، فأنها تفاعلت الى حد كبير مع مطالب الشعب المشروعة والمعقولة، اذ بادرت في العشرين من شهر كانون الاول-ديسمبر 2019، وبعد ثلاثة اسابيع من تقديم رئيس الوزراء عادل عبد المهدي استقالته الى البرلمان، الى اصدار بيان، تلاه معتمدها الشيخ عبد المهدي الكربلائي من على منبر صلاة الجمعة بمدينة كربلاء المقدسة، قالت فيه “قد أشرنا في خطبة سابقة الى ان الشعب هو مصدر السلطات ومنه تستمد شرعيتها- كما ينص عليه الدستور- وعلى ذلك فإنّ أقرب الطرق وأسلمها للخروج من الأزمة الراهنة وتفادي الذهاب الى المجهول أو الفوضى أو الاقتتال الداخلي ـ لا سمح الله-هو الرجوع الى الشعب بإجراء انتخابات مبكرة، بعد تشريع قانون منصف لها، وتشكيل مفوضية مستقلة لإجرائها، ووضع آلية مراقبة فاعلة على جميع مراحل عملها تسمح باستعادة الثقة بالعملية الانتخابية”.

وشددت المرجعية في ذلك البيان على “ضرورة اقرار قانون انتخابات أن يكون منسجماً مع تطلعات الناخبين، يقرّبهم من ممثليهم، ويرعى حرمة أصواتهم ولا يسمح بالالتفاف عليها، وإنّ اقرار قانون لا يكون بهذه الصفة لن يساعد على تجاوز الأزمة الحالية”.

وبالفعل فأنه في الرابع والعشرين من نفس الشهر-اي بعد اربعة ايام-اقر البرلمان العراقي قانون الانتخابات الجديد، على خلفية مخاضات عسيرة، شهدت مفاوضات ومساومات مارثونية شاقة بين الفرقاء السياسيين، وقد تألف القانون الجديد من خمسين مادة، ابرزها اعتماد الدوائر الانتخابية الصغيرة، وبدلا من ان تكون كل محافظة دائرة انتخابية، فأنها قسمت الى اكثر من دائرة بحسب حجمها السكاني، ليكون مجموع الدوائر وفق القانون الجديد ثلاثة وثمانين دائرة انتخابية، وكذلك الغاء نظام سانت ليغو في توزيع المقاعد، واعتماد قاعدة الفائز الاكبر وهكذا، اي عدم تحويل الاصوات التي يحصل عليها مرشح ما في كتلة معينة الى المرشحين الاخرين في القائمة.

وفي وقت مقارب، قام مجلس القضاء الاعلى بأختيار رئيس جديد لمفوضية الانتخابات واعضاء مجلس المفوضين من القضاة، وبدت تلك الخطوة وكأنها تحولا كبيرا في مسارات العملية الانتخابية، لانها ستفضي الى كسر الهيمنة التقليدية الحزبية على مفوضية الانتخابات، والقفز خارج الاطر الموضوعة، رغم كل ما قيل عن افتقار الفريق القضائي الجديد الى الخبرة الكافية في ادارة الملف الانتخابي بالمستوى المطلوب.

ولاشك، ان اقرار قانون الانتخابات الجديد، واستبدال رئيس المفوضية واعضائها، تعززت بقرار مجلس الوزراء برئاسة مصطفى الكاظمي، الذي تولى مهامه في السابع من شهر ايار-مايو 2020 خلفا لعادل عبد المهدي، والمتمثل بتحديد موعد اجراء الانتخابات البرلمانية المبكرة استجابة لمطالب الجماهير ودعوات المرجعية الدينية، اذ كان من المقرر ان تجرى الانتخابات في مطلع شهر حزيران-يوينو الماضي، بيد انها ارجأت الى العاشر من شهر تشرين الاول-اكتوبر المقبل، لاسباب وصفت بالفنية المتعلقة بطبيعة ومستوى استعدادات المفوضية، الا ان واقع الحال ومجمل المؤشرات والمعطيات، ذهبت الى ان اسباب التأخير هي في الواقع سياسية اكثر منها فنية، ولعل مجمل الحراك والتفاعلات الحاصلة فيما بعد اكدت ذلك بمقدار كبير جدا، وانه كلما اقترب موعد الاستحقاق الانتخابي، كلما اخذ المشهد السياسي العام يشهد المزيد من الارتباك والتخبط وخلط الاوراق، بحيث مازال الجدل والسجال حول امكانية اجراء الانتخابات من عدمها يشغل حيزا غير قليل، لاسيما وان الاطراف الداخلية والخارجية التي كانت متحمسة وداعمة الى حد كبير لاجراء الانتخابات المبكرة في اسرع وقت ممكن، راحت تروج بشكل او باخر لفكرة انعدام الظروف الملائمة لاجراء انتخابات حرة ونزيهة وشفافة، وتدعو الى تأجيلها مرة اخرى، وهذا يصدق على بعض القوى والكيانات التي انبثقت عن تظاهرات تشرين، ويصدق كذلك على عواصم غربية مثل واشنطن ولندن، من خلال تصريحات وبيانات وتحليلات غير رسمية، واشارات، مرة ضمنية واخرى صريحة.

وتبع التشكيك في امكانية اجراء الانتخابات، او الجدوى من اجرائها في ظل الظروف الامنية والسياسية والاقتصادية الراهنة، انسحاب ومقاطعة عدد من القوى والكيانات السياسية، من بينها التيار الصدري بزعامة السيد مقتدى الصدر، وائتلاف الوطنية بزعامة اياد علاوي، والحزب الشيوعي العراقي، وجبهة الحوار الوطني بزعامة صالح المطلك.

والملفت في اعلان تلك الكتل، هو أن الانسحابات جاءت بصيغة بيانات وتصريحات سياسية، حتى أن المفوضية العليا المستقلة للانتخابات أكدت أنه لم يصلها اي اشعار أو طلب من أي كتلة سياسية أو مرشح انتخابي تفيد بالانسحاب وعدم المشاركة بالانتخابات المقبلة.

هذا من جانب، ومن جانب آخر، أن اعلان مقاطعة البعض تبعها مباشرة انطلاق الحملات الانتخابية لعدد من الكتل والكيانات السياسية، وابرزها تحالف الفتح، الذي يعد الكتلة البرلمانية الاكبر في البرلمان الحالي، فضلا عن تأكيد قوى وزعامات سياسية عديدة على ضرورة اجراء الانتخابات في موعدها المحدد، معتبرة ان انسحاب بعض الكتل من السباق الانتخابي، وان كان مؤسفا، الا انه لايمكن ان يعطله او يعرقله، وهي ترى أن معالجة الأخطاء والسلبيات، وتصحيح الانحرافات، وتحقيق الإصلاحات، لايتم من خلال مقاطعة الانتخابات والتشكيك بمخرجاتها ونتائجها مسبقا، وانما عبر المشاركة الفاعلة فيها، والعمل الجاد مع مختلف القوى الوطنية لسد كل الثغرات التي يمكن من خلالها تمرير الأجندات والمخططات الخارجية المتقاطعة مع الإرادة الوطنية، تلك الأجندات والمخططات التي-وبحسب الاطراف الداعمة بقوة لاجراء الانتخابات في موعدها-يراد منها ابقاء العراق في دوامة الفوضى والاضطراب السياسي والامني والمجتمعي.

ولعل جانب من المخاوف والهواجس من مقاطعة الانتخابات، يتمثل بتراجع نسب المشاركة فيها، وهو ما اشار اليه رئيس البرلمان العراقي محمد الحبلوسي مؤخرا، حينما دعا “القوى التي أعلنت عن مقاطعة الانتخابات الى العدول عن هذا القرار والمساهمة الفاعلة في الانتخابات لدفع المواطنين على المشاركة بشكل أوسع في الانتخابات”،وبنفس المعنى تحدثت زعامات سياسية كبيرة، مثل رئيس الجمهورية برهم صالح، ورئيس المجلس الاعلى الاسلامي العراقي الشيخ همام حمودي، ورئيس تحالف الفتح هادي العامري، ورئيس تيار الحكمة السيد عمار الحكيم.

وطبيعي ان انسحاب التيار الصدري، يعني عزوف جمهوره عن الادلاء بأصواتهم، وهكذا بالنسبة للاخرين، وان كان هناك تفاوتا ربما يكون كبيرا في حجم جمهور كل طرف من الاطراف المقاطعة حتى الان، ناهيك عن كونه، قد يفتح الباب لاضطراب امني لايتحمله الشارع العراقي المثقل بالمشاكل والازمات، في ذات الوقت فأن التوافقات والتفاهمات السياسية، لاسيما فيما يتعلق بترتيب اوراق ما بعد الانتخابات وتشكيل الحكومة الجديدة، مازالت تعد افضل الخيارات المتاحة لتجنب الانزلاق نحو الفوضى، وتوفير الارضيات الملائمة لانهاء الوجود الاجنبي في البلاد بدلا من تكريسه في ظل انعدام الاستقرار. ومثلما شددت المرجعية الدينية في بيانها نهاية عام 2019، على “أهمية اجراء الانتخابات النيابية المبكرة كسبيل للخروج من الأزمة الراهنة وتفادي الذهاب الى المجهول أو الفوضى أو الاقتتال الداخلي”.

قد لاتأتي الانتخابات البرلمانية المبكرة في العراق بنتائج ومعطيات وارقام، من شأنها ان تقلب الموازين وتؤسس لمعادلات جديدة، تغيب فيها او تضعف هيمنة القوى التقليدية من المكونات الرئيسية الثلاث، الشيعية والسنية والكردية، وقد تشهد عمليات تلاعب وتزوير، وتواجه حملات تشكيك وتخوين، رغم حزمة الاجراءات المتخذة لاضفاء اكبر قدر من النزاهة والشفافية والمصداقية عليها، الا ان اجرائها بات يمثل تحديا حقيقيا، وخيارا لابد منه، حتى وان تقاطعت المصالح، وتباينت الحسابات، واحتدمت الصراعات بين الفرقاء ضمن حدود المكون الواحد، او ضمن الفضاء الوطني العام.

———————–

*كاتب وصحافي عراقي