23 ديسمبر، 2024 7:08 ص

مشهدنا السياسي … الى أين ؟!

مشهدنا السياسي … الى أين ؟!

في صورة المشهد السياسي ثمة حقائق جديدة تفرضها حركة الواقع الموضوعي ففي خضم الاحداث وتسارع وتيرة الأزمات، توارى المشهد السياسي خلف ستارها المعتم ، شهدت بغداد في الايام الماضية سلسلة من التفجيرات الدموية والمأساوية التي طالت كالعادة الابرياء من الناس ، وهم في حومة حركتهم سعيا لأسباب العيش والحياة وضغوطاتها المستمرة ، جراء مجمل الاوضاع التي تعيشها البلاد وتراكماتها في المعاناة وضياع الامل ، المشهد الدموي زاد جراح البلاد نزفا.
ثمة حقائق تطرح نفسها بقوة الاحداث وتواجدها ، تتعلق بالتراجع المخيف لأداء الاجهزة الامنية ودورها ، فالأرهاب الداعشي الذي طال مدنا ومحافظات وأستولى على ثلث مساحة البلاد في مدة وجيزة في حزيران عام 2014، لم يستطع من القيام بغارات الموت الهمجية عصارة وضحالة فكره وعقيدته التكفيرية بطريقة التوالي في الأختراق التي شهدناها حيث عدة أنفجارات في اليوم ، فضلا عن الارهاب التخريبي الذي طال مصنع الغاز في التاجي ، وهو استهداف ايضاً لحاجات الانسان العراقي الاساسية ، بما يعزز خط الأزمات المتصاعد ، وتلك إحدى مرامي الأرهاب وأشكاله في تعطيل صور الحياة .
إن ما يدعو للتساؤل أكثر ، لماذا يتراجع دور الاجهزة الامنية في الوقت الذي يجب أن تنتبه اكثر وتحذر ،وتفتح عيونها في كل مكان تزامنا مع الانتصارات التي تحققها القوات المسلحة والحشد وقوات البيشمركة ، لأن حالة المعنويات العالية والواقع المادي على الارض له تأثيراته الايجابية ، التي يجب أدامة زخمها حتى الاندحار
الكامل للارهاب وهزيمته في البلاد ، وهي ما تلقي بالمسؤولية المضاعفة على القوى الامنية ، بعدّها الوجه الآخر لأوضاع المجابهة مع الارهاب ، فهي المسؤولة عن الجبهة الداخلية وتعزيز امنها ، لأنها طرف الموازنة الذي لابد ان يتساوق مع جبهة المواجهة ، فتحقيق الانتصارات من العوامل التي تدفع الارهاب الى المزيد من صناعة مكائد الموت واستهداف الابرياء ، للتأثير على الجبهة الداخلية وخلخلتها ، وهي امور يجب ألّا تغيب عن المنظومة الامنية وأطر تحركاتها.
ثمة حقيقة أخرى يفصح عنها الواقع ، أن مصنع الغاز مرفق اقتصادي مهم ايًّا كان حجم أنتاجه ، أو محدوديته ، ويلعب دوراً مهما ، خاصة في ظرفنا الحالي الحساس والدقيق ، وتدمير مصنع حيوي كهذا ، تكلف أعادة بنائه، أو اصلاحه سنوات ، وربما مدداً تقارب الخطط الخمسية جراء ملابسات الفساد التي تقض مضاجع البلاد ، وهي عوامل تفرض مسبقاً وضع قوة عسكرية وامنية مناسبة كافية لحمايته ، خاصة أن منطقة التاجي تعرضت على مدى الاعوام الماضية الى الإرهاب وهجماته واحتمال أستهدافه محل نظر.
إن تعزيز جبهة الحرب على الأرهاب ، لابد أن يتساوق مع ترصين الجبهة الداخلية وتمتينها ، وهي على أرضية واحدة من حيث الهدف الذي يتلخص بالقضاء على الارهاب ومرتكزاته ومدار نشاطه التخريبي الهدام.
في ضوء المتغيرات الحالية ومداخلات مشكلاته القائمة والتناقضات الصارخة ، فأن مراجعة الذات والأوضاع بمنطق عقلاني سليم ، لابد أن تشّتد وتتعمق أذا أردنا الخروج من عنق الزجاجة.
إن تقييم مجمل الاوضاع التي مرت وتمر بها البلاد ، وعلى مساراته المتنوعة على عديد الصعد ، تتطلب تضحيات الرؤية العابرة للفئوية والحزبية والطائفية لمنحنى جديد أكثر بعداً واستشرافاً للمستقبل .
وتلك تتطلب أسس الشراكة الفاعلة ، التي كثيراً ما اشار اليها الرئيس بارزاني ورعى مؤتمرات وطنية عديدة بصددها في مراحل سابقة ، كي تأخذ التجربة الجديدة شكلها الصحيح والفاعل ، وهي ما تصنع قوة فعل تاريخية مكينة قادرة على استيعاب المسؤولية التاريخية المشتركة ، ونجاح مهماتها بأتجاه تحقيق المشروع الديمقراطي واهدافه وتذلل عقباته وتواجه تحدياته .
إن البلاد وبعد ثلاث عشرة سنة من التجربة الجديدة ، التي لم تكن سوى عمر ضائع آخر في المجرى التاريخي لها. ففي هذه السنوات وبرغم حجم ما طرح من مشاريع سياسية وشعارات وبرامج كثيرة ومتعددة ، حتى ليخال المرء حين يطلع عليها ، بأن البلاد مقبلة على نقلة نوعية تاريخية فريدة ، ليس في تاريخها المعاصر فحسب ، وإنما على مستوى عموم المنطقة ولكن الرياح جرت بما لا تشتهي السفن.
النتائج جاءت مخيبة لآمال الكثيرين، ومخيبة لآمال شعب قدم الكثير من التضحيات والدماء من أجل الخلاص من الدكتاتوريات والاستعباد والظلم والفرص التاريخية الضائعة للبناء.
إن حجم ما طرح من مشاريع لم يكن بأكثر ، مما طرح من مشاريع بناء غير منجزة بسبب آفة الفساد ، فكان تساوي الاثنين في النتائج هزيمة للمشروع السياسي الذي لم يخلف ، سوى الصراعات والتناقضات وأشد أشكال الفساد تعاظما وضعت البلاد على مفترق طرق ، من دون حساب العواقب ، وكأن تاريخ البلاد المليء بصراعات الدم
والجور والتعديات وغياب المساواة ، لم يعد له وجود في الذاكرة السياسية ، التي يبدو إن ديدان الفساد أكلتها هي الاخرى .
ثلاث عشرة سنة والبلد يجر أذيال التقهقر والتراجع في ميادين البناء والحياة ، فيما تتعاظم فيه أشكال الظواهر الاجتماعية وأمراضها الفتاكة التي لم تجد لها منفذا، ولو على مستوى متواضع ، لتشكل تهديداً جديداً لحاضره ومستقبله. فالمسار السياسي الذي خرج عن سكته وحاضنته الدستورية ، وبات شكلاً خاضعاً للمزاج السياسي ، الذي ما أنفك متسربلاً بصراعاتٍ وتناقضات عقدّت البسيط من الامور، وأحالت المعقد الى كارثة وعقد متجددة ، وأحالت نزعة الهيمنة الى إحتكار تصعب معه لغة الحوار والتفاهمات ،ودشنت المؤسسات الديمقراطية الجديدة أولى عهدها بالفساد الأداري والمالي لتجمّد حركة الرقابة الفعّالة على مجمل حركة النشاط الحكومي ، لتضع الناس مع أقدار جديدة تدفع باتجاه السخط والاستياء ، الذي يتحول مع غياب التقاليد السياسية الرشيدة الى أحتجاج وفوضى في آن واحد.
لم يكن موئل المشروع السياسي الجديد ، التحول الى مشروع سلطوي ، لأنه لا يستجيب الى أي منطق تطوري ، بل ينجر الى مشاريع ذات طابع خصوصي وشخصي ، وهو ما عمق شرخ الفساد وأنفتح بكليته على المقدرات المالية والاقتصادية للبلاد ، ووضعها في حالة إعتقال جهوي مع تجميد صفة الدستور.
وفي تناقض آخر ، كان أهمال معالجة موروثات الانظمة السابقة في مجال الافكار المفعمة باشكال التمييز والتهميش والاقصاء هائلا وباهظاً والحقيقة ان النظام البائد جعل من فلسفته تلك اساساً للتفرقة الاجتماعية وبلبلة الافكار وتشويه الحقائق وعدم التصدي لأزالة هذه الادران بما يؤسس لصرح سياسي جديد تحلق فيه افكار العدالة والمساواة والتعايش امرا يكرس المفاهيم السابقة ويجعلها رهنا للصراعات والتجاذبات واذكاء التخلف ، فالمفردات السابقة أضحت قيد التداول من دون أستحياء.
قضيتان أساسيتان غيبتا عمدا ، أو سهوا عن محاولات بناء الصرح الديمقراطي ، كانت الاولى في الالتزام بالدستور وبنوده في الشراكة وما يقتضيه من مسؤوليات تاريخية ، خسرت البلاد ثمارها في التحديات التي واجهتها. والثانية محاولة بناء قاعدة فكرية تشكل دعامة للتحولات الديمقراطية تسهم في بناء وعي يشكل عاملاً مساعداً اضافياً.
-2-
تتوالى الدعوات والزيارات ، لأعادة الوزراء والنواب الكورد لممارسة دورهم ، لكن السؤال الأكثر إلحاحا ، هل تكفي الدعوات والمناشدات التي بخلاف الالتزامات المترتبة عليها ، تظل شكلية بحتة ، فليس من ورائها طائل سوى إستكمال التواجد الشكلي أو النصاب من دون اثر فعلي للكورد؟!.
إن المزاج السياسي سبق أن اقصى الوزراء الكورد من مناصبهم ، ومهما قيل عن الأزمة وتداعياتها ، فأن إقصاء الوزراء الكورد سواء بقصد ام من دونه ، هو خروج عن المنطلقات الدستورية وإيقاعها في التوافق والشراكة فليس لأحد الغاؤها بالمزاج تحت أية ذريعة ، لأن فلسفة الحكم في ظل نظامنا الجديد لا تتيح ذلك ، فضلا عن إن البلاد لا يمكن حكمها من أي طرف ، أو جهة أحادية وهذه حقيقة لا تقبل النقاش أو الخطأ.
برغم الأزمات المفتعلة والتنصل عن الدستور وبنوده وعن الاتفاقيات ، الذي يكفل حقوق الجميع بمن فيهم الكورد ، فأنهم كانوا على الدوام جزء من الحلول وليس المشكلات ، وبعد كل الذي جرى يتساءل الشارع الكوردي عن جدوى شراكة موهومة لم تحقق للكورد سوى إحتجاب ميزانيتهم وقطع رواتبهم وتعليق حقوقهم الدستورية .
تأسس العراق بوثيقة دولية موقعة من أكثر من اربع وستين دولة ، تنص على أن الدولة الجديدة دولة الشراكة بين العرب والكورد ، فكيف كانت هذه الشراكة على مدى عهود الدولة العراقية ؟! كان الاضطهاد والقمع والموت الجماعي هو حصتهم وما ينتظرهم على الدوام ، وحاول النظام البائد سحق الوجود القومي للكورد.
وقد ناضل الكورد ضد الانظمة المستبدة والدكتاتورية ، وشكلت المناطق المحررة أيام المسيرة الثورية لحركة التحرر الكوردية مرتعاً للمناضلين والاحرار من العراقيين من كل فئاتهم وانتماءاتهم وآخرها مؤتمرات المعارضة التي لقيت كل اشكال الدعم المادي والمعنوي لتحقيق التغيير المنشود فماذا بعد التغيير؟!.
قدّم الكورد الكثير في سبيل نجاح التجربة الجديدة وتأسيس مرتكزاتها، لكن النزعة السلطوية ومراميها ، التي أثبت تاريخ البلاد فشلها وعقمها في إدارتها ، اذ أن تاريخ السلطة على الدوام هو ترجيح طرف على آخر وتثبيت مصالح جهة على حساب الآخرين ، وهي التي جلبت الويلات والكوارث ، فضلا عن منطقها المناقض لمنطق الشراكة والبناء الجماعي.
أن الاستدراك يحتاج الى منطق موضوعي وعقلاني ، ويقتضي اعادة المسارات الصحيحة ومستحقاتها ، فضلا عن ضرورات الارادة في بناء ثقة التواصل والعمل.