مقدمة : أشتمل التراث العربي الإسلامي على مجموعة علوم، منها : علم الكلام، علم الفقه، علوم القرآن، علم الحديث، الفلسفة، التاريخ، الأدب. وفي كل فرع من هذه الفروع ترك لنا السلف ثروة تراثية، يشيد بها الباحثون، فمثلا على صعيد الأدب والشعر، احتفظ لنا التراث بقصائد أشهر الشعراء والفحول العرب، التي مازالت خالدة، تتناقلها الألسن، يحفظونها ويستشهدون بها، منها المعلقات السبعة. وقد جسدت قصائد الشعراء الروح الابداعية للعرب، ونجحت في نقل مشاعرهم ومواقفهم وخصائصهم وما يتميزون به من عادات وتقاليد وأعراف، كما حكى لنا الشعراء عن حروب ومغامرات وغزوات العرب. وعلى صعيد الفلسفة والعلوم، فقد تفاعل العرب والمسلمون معهما، وأسهموا بشكل كبير في تطويرهما، وهناك علماء أفذاذ يشهد لهم التاريخ والتراث. وقد أضاف الفلاسفة العرب والمسلمين آراء فلسفية اتسمت بالدقة والعمق في بحوث الوجود والماهية والميتافيزيقا والأخلاق. فتركوا لنا تراثا قيما، لكبار الفلاسفة والعلماء، أمثال: الكندي، والفارابي، وابن سينا، وابن مسكويه، وابن الهيثم، وإخوان الصفا، والغزالي، في المشرق، وابن باجة، وابن طفيل، وابن رشد، وابن عربي، وابن خلدون في المغرب وأخرين. وقد تناولوا مختلف المواضيع الفلسفية من الوجود الى اللاهوت، مرورا بمفاهيم كثيرة. كما حظيت الفنون والعمارة خاصة الزخرفة الاسلامية بمكانة كبيرة، وتطورت بشكل ملحوظ في العصور الوسطى. لا يمكننا تجاهل الجمال والتفاصيل الدقيقة في العمارة الإسلامية التي غلفت مساجدها المذهلة وقصورها الفخمة. وكل هذا مشهود له، ويبقى التراث العربي – الإسلامي في هذه المجالات موضع احترام وتقدير.
التراث الديني
يقصد بالتراث الديني كل ما تركه العلماء والفقهاء والمتكلمون من كتابات ومدونات تدور حول الدين أو ما يتفرع عليه، سواء الكتاب الكريم أو سيرة النبي محمد (ص). وهو تراث عزير ومتنوع، يتعهدونه ويحافظون عليه، ويعودون له لفهم الاسلام وتشريعاته وكل ما يرتبط بحياتهم اليومية. ومحور هذا التراث على صعيد علم الكلام القديم، هو العقيدة الاسلامية، التوحيد ونفي الشرك بالله تعالى. أي الإيمان بوحدانية الله تعالى لا شريك ولا ند له.
وأنه الخالق والمدبر للكون بأكمله، ثم الإيمان بجميع الأنبياء والرسل، مع التركيز على الرسالة المحمدية باعتبارها الرسالة الخاتمة. ومحوره على صعيد الفقه، سلوك الانسان، وكيفية تطابقه مع الشريعة الاسلامية وأحكامها. فمهمة الفقه، استنباط الاحكام الشرعية في جميع المسائل التي يحتاجها الانسان في حياته، كالعبادات والمعاملات، كـالصلاة والصوم والحج والزكاة، والعقود والبيع والشراء.
وكل ما يتصل بها من تفصيلات وتعاليم، سواء كانت شرحا وتفسيرا ورواية ونقلا للآراء، أو قضايا اجتهادية استنباطية. كما لا يمكن تجاهل اهتمام التراث بالأخلاق وإن كانت كتب الأخلاق قليلة في هذا المجال، إلا ان الاخلاق من الدين وقد أكد عليها الكتاب الكريم، فاهتم بها المسلمون، مادامت تلامس مشاعرهم وسلوكهم. وكان علم الكلام القديم قد تصدى لبعض جوانب الموضوعات الاخلاقية، كتعريف الحُسن والقُبح، وهل هما عقليان أم شرعيان.
وعليه يمثل التراث إرثا عظيما، يعزز الانتماء والهوية، ويساهم في تشكيل وعينا واعتقاداتنا حول العالم ووجودنا كأفراد ومجتمعان. بالتالي، يجب علينا الاعتناء به، وتقديمه كتجارب مهمة يمكن الاستفادة منها.
لكن هل ثراء التراث يعني كماله، وأنه صالح لكل زمان ومكان أم أنه صالح لذلك الوقت؟ وما علاقتنا به حينئذٍ. هل علينا تقديس التراث وحرمة نقده ومراجعته؟ أم علينا اتخاذ موقف منه، وما هو؟ هذا هو مشروع المفكر العراقي الكبير (ماجد الغرباوي) .
مشروع ماجد الغرباوي الفكري
يرفض ماجد الغرباوي في مشروعه الفكري هيمنة التراث والعقل التراثي، ويطلب بمراجعته مراجعة نقدية، للحفاظ على عناصر القوة فيه والاستفادة منها، يقول: ينبغي (قراءة التراث ضمن سياقه التاريخي، فهناك منجزات علمية على صعيد الفلسفة وعلم الكلام والفقه وعلوم القرآن والحديث والدراية، تجاوز بعضه الزمن، ومازال بعضها الآخر يفرض حضوره العلمي والمعرفي).
دراسته ضمن سياقه التاريخي تسمح بنقده وتعريته والكشف عن القيمة المعرفية لمبادئه ومقولاته الأولية، فمهما بالغوا بقدسية التراث يبقى منجزاً بشرياً في إطار ظرفه الزماني والمكاني، يحتفظ بتاريخيته، وعدم تعاليه على النقد. ويبقى مرتهناً في إطلاقه وتأثيره لمتانة مبانيه ومبادئه وأسسه، بما في ذلك الفقه الإسلامي الذي يشتغل على نصوص الكتاب والسنة)1.
فرؤيته واضحة تجاه التراث، وما هو الموقف الصحيح منه. فمشروعه تميز بقدرته على تقديم رؤية جديدة للتراث باستخدام مناهج نقدية حديثة، من أجل فهمٍ أعمق لعلاقة الماضي بالحاضر والمستقبل، بعد تشخيص سلبيات التراث من جهة، وبيان ما تعانيه الحضارة الغربية المادية من جهة أخرى. فالغرباوي يسعى في مشروعه النقدي للتراث وخصوص الفقه، الى تقديم رؤية جديدة لهما، تبتني على العقل والعقلانية في إطار القيم الأخلاقية، بشكل تتقدم فيه الأخلاق على كل شيء.
ويسعى المشروع تجاوز أمراض التراث وأمراض الحضارة المادية. ويقدم صورة جديد لمجتمع يتبنى قيم الفضيلة، ويواكب قيم الحضارة الجديدة بعقلانية والاستفادة من تجارب الآخرين. لهذا يؤكد دائما على النقد والمراجعة النقدية، من أجل فهم أعمق للدين، وتبني قيم الحرية والتسامح والعدالة وقيم المجتمع المبنى، كي ترقى مجمعاتنا الى مستوى المجتمعات الحديدة
بشكل عام جاء مشروع الأستاذ ماجد الغرباوي الفكري لتحرير العقل من خرافاته واساطيره، كي يمكنه مواكبة العصر. من خلال التركيز على العقل والعقلانية في فهم التراث والعقل التراثي. كما أن مشروعه يهدف إلى تجاوز الدوغمائية القاتلة، والتعصب العنصري، التي تعترض تفكير فقهائنا التقليديين، وتدمر عقولنا.
أضف الى ذلك يسعى مشروع الغرباوي أيضًا إلى التخلص من الأمراض الطائفية والعنصرية والتعصب، وتحطيم المعتقدات الخرافية والأساطير التي تحاصر العقل والعقلانية منذ العصور الوسطى، ويدعو مشروعه إلى نقد النص الديني وتجديد فهمنا له في ضوء معايير القيم الانسانية والحضارية.
وهناك مشكلة جوهرية لم يتطرق لها او يفكر بها إلا القليل من المفكرين، ومن ضمن الذين تطرقوا لها هو الأستاذ الغرباوي. وهي مشكلة الهوية فالكثير من الدول الاسلامية تركز على هويتها القومية وليست الدينية او الطائفية مثل ايران وتركيا فهما يركزان على هويتهما القومية وليست هويتهما الدينية أو الطائفية، رغم تبجحهما في وسائل الاعلام بانهما دول اسلامية كبرى وريثة حكم المعصومين والتابعين الأوائل، والسلف الصالح.
يقول المفكر المصري الكبير(حسن حنفي 1935-2021)” لن يتقدم المسلمون أذا كان القرآن سقف لأفكارهم “. وهذا ما يؤكده الأستاذ ماجد الغرباوي، يؤكد على الانفتاح الحضاري، والاستفادة من تجارب الآخرين لتطوير أنفسنا والاستفادة من علومهم وانجازاتهم، دون المغامرة بأصالتنا.
أتمنى للأستاذ ماجد الغرباوي طول العمر بخير وعافية.
***
شاكر عبد موسى/ العراق
مقالة نشرت يوم الأثنين 18 أذار 2024 في صحيفة المثقف الصادرة في مدينة سدني/ أستراليا.
………………
1 – الغرباوي، ماجد، مقتضيات الحكمة في التشريع.. نحنو منهج جديد لتشريع الأحكام، مؤسسة المثقف، سيدني – أستراليا، وأمل الجديدة، دمشق – سوريا، 2024م، ص 319.
……………….
* مشاركة (34) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).
رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي
https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10