(*)
ما قامت به الكاتبة نوال جويد، ليس بالقليل،أنها دخلت حقل الشفاهيات وقامت بحراثة هذا الحقل،ثم أنتقت عينات حيوية من الشفاهيات، وخصبّت بها بياضات الورق، وهكذا أصبحت الصفحات مجمعات سكنية مأهولة، بنصوص مضيئة ومنعشة، ومن المؤكد أنها فلترت النصوص، ولم تمكيجها، وحتى تحافظ على شخصية الشفاهية في النصوص، فقد سردتها شفاهيا، من خلال الحفاظ على اللهجة المحلية .. وهنا تداعت ذاكرتي الى تلك السيدة المصرية ،طيّب الله ثراها، الدكتورة نبيلة إبراهيم – أستاذة الأدب الشعبي في جامعة عين الشمس، فبفضل سردياتها تعمق الوعي لديّ في هذا الحقل الأدبي الشيّق ..ولايمكن نسيان الدور الحيوي العراقي، الذي قامت به مجلة(التراث الشعبي) وهي من المجلات الشهرية الرصينة ، وكذلك العمود اليومي(بصراحة أبو كاطع) وشخصية خلف الدواح في صحيفة طريق الشعب 1973 للصحفي والروائي شمران الياسري، الذي هو بحق من رواد الرواية الريفية، المكتوبة بالفصحى، وقد جسّد ذلك في رباعياته الروائية:(الزناد – بلابوش دنيا- غنم الشيوخ – فلوس حميّد)
(*)
موجهات قراءتي، ستكون بالتعاضد مع فاعلية الجندر، وتبيان تأنيث الموروث، بنماذج من محمولات (مشحوف أخريبط) وستتوقف قراءتي عند :
*تسواهن
*شلوى
*إرداعة
*خاجية
*نوشة
*سعدة
(*)
الجميل في تسواهن، هو حكمتها في التعامل مع الموقف اللا أخلاقي من ذلك البقال في سوق الشيوخ، فهي ردت على العلامتي الدنيء (أربع أكوام من الربيات وكل كوم خمس وعشرين ربية)..بتوجيه الكلام الرزين المتصابر : بس دنيّ هواي إنت تكدر تروح (العجد الهوى) وتختار لك وحدة أحلى مني وما تدفع أكثر من ربيتين ؟)
نلاحظ أن تسواهن لجمت نارها بكلام يلي ذلك حول نسبها وحسبها ومقام والدها في العشيرة ..وتختتم كلامها بالقول الفصل (كفيلك العباس إذا شفتني بسّطت لو دخلت السوك مرة ثانية ذيج الساعة إطيني ربيّة وحدة كافي).. نلاحظ هنا ان هذا الرجل الريفي آنذاك لا يحمل إلاّ مفهوما وسخا عن المرأة الكادحة ..، وبالتوازي مع الوساخة الذكورية هناك الثقة الرجولية بالمرأة نفسها ويأتي ذلك على لسان تسواهن وهي تعتد/ تعدد مستشاريها عائليا (أشير أبوي وهو شيخ عشيرة وأشور أخوتي لأن أمنوني أمانة وإذا قبلوا أنطيك الأمانة وأشير إبن عمي وزوجي اللي عندي منه ثلاث أولاد، لو أهلي يعرفون ما أحفظ أمانتهم ما خلوني أطر الهور..)..
(*)
تقنية السرد في حكية ،،تسواهن،، مميزة : لدينا سارد ضمني تتخفى خلفه المؤلفة (عن سوالفة جدي الله يرحمه)، ثم نكتشف أن الجد هو السارد الثاني، وهو سارد محايد، استلم المرسلة السردية من السارد الثالث وهو السارد الأساس، سارد مشارك بالسالفة أو السالوفة، بل هو بطلها السلبي ، وبشهادة المؤلفة، نقلا عن جدها، نقلا عن حجي حميد (والحديث لحجي حميد صديق جدي )
(*)
في (طير شلوى) تعيد صياغة الموروث الشفاهي،حول الجدة شلوى في تربية أحفادها اليتامى الثلاثة، فكانت تستجدي الطعام لهم، وتطلق عليهم(طويراتي) ثم يتكفل رجل مقتدر بإعالتهم هو الشيخ عبد الكريم الجربا، هنا لاينتهي دور الجدة في تربية الاحفاد الثلاثة، بل ستنسب شجاعتهم ليس لكفالة الشيخ ، بل لتضحيات الجدة شلوى حد امتهان الشخص لكرامته من أجل أسباب الحياة مع الحفاظ على الشرف،
وتوجز شجاعة : شويش وعدامة وهيشان، بكلمتين تلفظت بهما الجدة وهم صغارالسن، حين كانت تستجدي الغداء والعشاء لهم من البيوت (طير شلوى)
(*)
خاجية : امرأة لاترى من الحياة سوى البعد الأول، لكن صدمة المتغير التي لمستها في زوجها، ستنقلها الى موقع آخر فتتعامل مع الحياة من جهوية جديدة، حين تقدم لها أمها المساعدة المشروطة( كالتلها بنيتي أساعدج لاجن لزوم تجيبين شعراية من ركبة الذيب / 155) هنا ستستعين خاجية بصديقة لها ذات دراية بطبائع الحيوان،وهكذا ستطعم خاجية الذيب ويتآلف معها، وتتمكن من مرادها، فتذهب لتبشر أمها ، فيكون جواب أمها( كون الذيب روضتيه رجلج ماتكدرين عليه؟/ 156) وهنا هوالدرس / المعاملة ..
أما الدرس السردي ضمن الموروث ، فقد تمرحل ثلاثيا نسويا
*الزوجة
*الأم
*الصديقة
وعلى الطرف الثاني
* الزوج الذي كان حاضرا بغيابه في النص وحضوره من خلال المعادل الموضوعي الذي هو : الذئب .
(*)
نوشة : درس سردي ليوم عادي هادىء في حياة امرأة مغمورة في صعوبات الحياة اليومية في الهور ونوشة امرأة بصيغة : مثال أعلى للأنوثة (جمالها مضرب للأمثال والكل يسولف بيها.. النسوان جانن يغارن منها والرجال يتمنونها..نوشة خدودها تلهث مثل الشمس وعيونها كحيلة من رب العالمين../ 161) هذه الأنثى زوجوها لمن لا يستحقها، وتلك قاعدة الهور الذهبية ..(مثل أغلب بنات الهور تزوجت من رجل مو كفو إلها و لا يعرف قيمتها .. لكن هي رغم كل هذا ماتخلت عنه ولا قصّرت بحكه وحك أهله) وليس لها هذا السلوك السوي الجميل فقط، فهذه المرأة هي المعيل أقتصاديا للعائلة كلها ..(وجانت سند إلهم بالمعيشة رغم صعوباتها)
(*)
بالتجاور ..أرى أن الكاتبة، مثلما شخصت نسوة ً بإسمائهن وأفعالهن، فهي قدمت أنماطا أخرى بعلاماتية شعرية في المقالة المعنونة (معاناة النساء/ 134) من خلال الفضاء النصي توجد أربع نساء، سيقدمن تعريفات لحياتهن الزوجية أثناء التحطيب، كل تعريف بحدود سطرين من الدارمي ..الأنساق النسوية الثلاثة : تتجاور في المعنى الكاشف عن الحضور السالب للزوج، لكن النسق الرابع هو دائما المشحون بالمتغير الجهوي، وهاهي الزوجة الكادحة الفلاحة تقدم وجيزا جميلا في المباهلة الزوجية :
(كل رجالجهن فدوة لبو بيتي
كص الهاشمي ليّه ولصاحبتي )
(*)
ثريا الكتاب
* يشير عنوان الكتاب الى الريف بالكلمتين
*مشحوف
* خريبط
إذن المتن النصي يشتغل على الريف بالثريا الفنية وبالعنوان الذرائعي/ التفسيري للثريا ذاتها (كتابات من الموروث الشعبي)..كل ذلك في غلاف الكتاب، بلا أي جهد في حراثة النصوص بفعل قراءة، لكن حين أصل الى ص119 وأدخل مشحوف خريبط سأختض كسعفة .. وسأكتشف في الأخت الكاتبة نوال جويد،إنصافا للخييرين الشجعان في زمن انتهاك الأعراض والتنصل عن الهوية :بتوقيت(ماحصل بعد انقلاب ال 63 المشؤوم وإنتقال الكثير من الثوار والشيوعيون للأهوار بعد أن قام البعثيون والقوميون بمطاردتهم وسجنهم وإعدامهم بالجملة وكعادة أهل الأهوار الكرام المضيافين أحسنوا ضيافتهم وأكرموهم وأصبحوا منهم وبيهم../119) في هذه المقال سيتألقان خريبط ومشحوفه،في تلك السماء الدامية، والليل المسلح بغدارات بورسعيد، الذي جعل العراق ليلا حتى منتصف تشرين من السنة نفسها ..وبطولة خريبط اتركها لفعل القراءة، هذه البطولات أراها فعلا تنتسب لأهل الأهوار الكرام المضيافين ..بشهادة حسب الشيخ جعفر في قصيدة(توقيع) المنشورة في ديوانه (زيارة السيدة السومرية) والتي كتبتُ نقدا عنها ،منشور في جريدة الزمان/ 8 حزيران 2014(نجمة قشة مبللة بالعواء الزراعي)…
(*)
لوكان شمران الياسري حياً، لكان أكثرنا سعادة بهذا المنجز الضروري، أعني ( مشحوف خريبط) الذي بادر بخطوته الأولى في 1972، من خلال رباعيته الروائية: الزناد، بلا بوش دنيا، غنم الشيوخ، فلوس أحميد.. وما قامت به الكاتبة نوال جويد، يعد ضرورة معرفية، دفاعا عن الموروث الشعبي، الذي هو في مسيس الحاجة لمدونة تضيئه نحو ذاكرتنا الجمعية :
(*)
في السياق نفسه، أزدهر، هذا النمط في إعادة إنتاج الموروث الشعبي :
*فقد صدر للكاتب سعدون محسن ضمد/ النحت على صخرة الموت/ قراءة أنثربولجية تأويلية في شعر النعي لنساء جنوب العراق/ دار سطور/2017
*الروائية الإمارتية، سارة الجروان (بنت نارنج الترنج)/ دار الآداب/ 2010،وأطلقت كلمة (حزاية) على فصولها وهي تقابل كلمة سالفة أو سالوفة، واشتغل كل نص مرتين واحدة باللهجة الخليجة والثانية، بالفصحى، وهكذا انقسم الكتاب الى فصلين
*النص السردي الشفاهي
*النص السردي المفصّح .
*بلقيس خالد ، شعرنت الموروث الشعبي على لسان الجدات في ديوانها الثالث (سماوات السيسم) / دار ضفاف / بغداد – دولة الأمارات العربية المتحدة – ط1/ 2013
*الكاتب والشاعر علي أبو عراق، أصدر في هذا السياق كتاب (شفاهيات / مرويات عراقية ) عن دار تموز في 2015، والكتاب معني بالموروث الشعبي في محافظة ميسان وتفرعاتها
*نوال جويد/ مشحوف خريبط/ كتابات من الموروث الشعبي/ دار الرافدين/ بيروت/ ط1/ 2018