23 ديسمبر، 2024 10:59 ص

مشاريع النهضة والعقلنة والتحديث ومعوقاتها

مشاريع النهضة والعقلنة والتحديث ومعوقاتها

شهد العالم العربي الاسلامي منذ أواخر القرن التاسع عشر ، موجات من الحركات الاجتماعية الفكرية والتيارات الدينية العقلية والنهضوية التنويرية، التي تنادي بالاصلاح والحداثة والعصرنة والتجديد الديني.
ولكن للاسف أن جميع هذه الحركات والتيارات اخفقت في تحقيق واحداث نقلة نوعية على صعيد تجديد وعقلنة الفكر الديني ، واجراء اصلاحات جذرية عميقة ، وتجسيد تطلعات وأماني شعوبنا ومجتمعاتنا العربية الاسلامية في التقدم والعصرنة والتمدن والتطور العلمي الحضاري .
وكان المصلح الاجتماعي الطهطاوي أول من وقف على رأس حركة النهضة العلمية الثقافية التي أسس لها هو وجيل التنويريين والاصلاحيين المؤمنين بالتغيير، أبرزهم: جمال الدين الافغاني، رائد الاصلاح الديني الذي اضطلع بدور ثقافي وسياسي هام وحاسم في مصر وجمع حوله عدداً من المثقفين ورجالات العلم والفكر والثقافة من مختلف الأطياف والمشارب والمذاهب الفكرية والاجتماعية والسياسية . وقد سعى في البداية الى هدم وتدمير السور الذي اقيم في أعقاب حرق مؤلفات الفيلسوف العربي الاسلامي ابن رشد ، بين الاسلام والفلسفة ، معتبراً أن الاسلام هو دين العقل والاجتهاد والجدل ، وأن الايمان الحقيقي هو الايمان المستند الى الدليل والبرهان العقليين . كذلك مثّل تيار الاصلاح الديني الاسلامي الامام محمد عبده والمصلح عبد الرحمن الكواكبي ، وهذا التيار رأى أن المجتمعات العربية الاسلامية تعيش حالة انحطاط ثقافي واجتماعي وسياسي ، ولن تجتازها نحو المستقبل الحضاري الا من خلال مشروع اصلاحي مجتمعي تغييري يشكل رافعته اسلام عقلاني متنور منفتح على العلم.
وقد ركز محمد عبده على الحرية الفردية وحرية الاعتقاد والتفكير والتعبير ، موضحاً أن الأصل الثالث للاسلام هو البعد عن التكفير ، بينما الامام عبد الرحمن الكواكبي اهتم بالحرية السياسية مؤكداً أن الاستبداد هو عامل أساسي ورئيسي لتخلف المجتمعات العربية الاسلامية وحجر عثرة في طريق تقدمها ونهوضها ورقيها ، معلناً بصوت واضح أن هناك علاقة عضوية جدلية بين سيطرة الجهل على الأمة وسيادة الاستبداد.
وفي خضم حركات التحرر الوطنية التي تبلورت ونضجت في ظل الأنظمة العربية التقدمية بعد جلاء الاٍستعمار ، نشأ جيل من دعاة العصرنة والعقلنة والاصلاح الثقافي والاجتماعي ، مستنداً الى ركائز أساسية، منها: النهضة العلمية والفكرية والاصلاح الديني ، والثورة الاجتماعية الديمقراطية . وتمثل هذا الجيل بالشيخ الأزهري العلامة علي عبد الرازق ، صاحب كتاب ” الاسلام واصول الحكم” الذي يعتبر أهم كتاب في نقد الفكر السياسي العربي والاسلامي ، وأثار حين صدوره عاصفة هوجاء وبسببه جرّد من مشيخة الأزهر ، ومن خلال كتابه هذا أوضح علي عبد الرازق بأن الاسلام لا يتعارض مع العلمانية، بل في وسعه التعايش معها. وقد فتحت أفكاره هذه افاقاً جديدة أمام تطور الاصلاح الديني في المجتمعات العربية والاسلامية ، وتنامي وتصاعد دور التيار العلماني التقدمي العقلاني في العالم العربي. كما تمثل هذا التيار بطروحات وأفكار أحمد لطفي السيد وطه حسين والشيخ الأحمر عبد اللـه العلايلي وغيرهم .
ولا ريب أن محاولات فرض العصرنة والاصلاحات الثقافية والاجتماعية بشكل فوقي ، ناهيك عن التجارب التحديثية الخاطئة ،أدت بالتالي الى نكوص واضمحلال حركة الاصلاح الديني وانطفائها ، والى ولادة وانبثاق ألأصوليات الاسلامية الراديكالية ونمو الخطاب الديني السلفي وتبلور ايديولوجية الاسلام السياسي ممثلة بحركة الأخوان المسلمين عبر أقطابها سيد قطب وحسن البنا .
وأذا ألقينا نظرة سريعة الى أحوال وأوضاع الأقطار العربية الاسلامية نجد حجم الفشل والاخفاق الذريع الذي منيت به حركة النهضة ومشروعها التنويري النهضوي، ونرى أيضاً، الردّة الفكرية والظلامية والتضليل الفكري في بنية الخطاب السلفي ، علاوة على السطوة غير المسبوقة للأصوليات الاسلامية الراديكالية المعادية للحداثة والعلم والحضارة ، التي تحجب أي تطور واجتهاد اصلاحي وراء أدخنة الارهاب ودعوات التكفير ومحاكم التفتيش ، التي طالت عدداً من النخب الثقافية التي تؤمن وتتبنى الفكر العلماني التقدمي الاشعاعي النير، وكذلك ازدهار التعصب الديني على حساب العقل والتنوّر.
وازاء تصاعد المد الاصولي المتأسلم، ووسط دعوات الأنغلاق والتقوقع على الذات ووسط زعيق وضجيج القوى التكفيرية المتطرفة ، وفي مواجهة الخطاب الديني المتشدد المتنكر لشرعية الأختلاف ، شهدت الساحة الفكرية العربية بروز عدد من المفكرين والمثقفين النقديين العقلانيين المتنورين الداعين الى تجديد الفكر الاسلامي واحياء التراث النقدي العقلاني فيه. ومن أبرز هؤلاء المثقفين والتنويريين الجدد: محمد أركون ، ونصر حامد أبو زيد، وصادق جلال العظم ، ومحمد عابد الجابري، والشيخ الراحل خليل عبد الكريم وسواهم. وها هم يخوضون معارك سجالية حضارية وفكرية شرسة ضد الشطط التكفيري ، وينتقدون الخطاب الاسلامي السائد، خطاب التعصب والسلفية المعادية للعقل.، وذلك عبر مساهماتهم النيّرة وجهودهم الأكاديمية وبحوثهم الفكرية والتاريخية الجادة، سعياً لتأسيس نهضة اصلاحية جديدة وتأصيل قواعد الحداثة العقلية في المجتمع العربي الاسلامي من خلال تجديد الفكر الديني المعاصر وتنويره بالعقل، بدلاً من بقائه ارثاً متحجراً يرزح تحت نير الأفكار والطروحات السلفية والغيبية ، التي تقف سداً منيعاً أمام تطلعات الشعوب العربية المقهورة والمستلبة نحو الحرية وبناء مجتمع الرخاء والعدالة الاجتماعية . ويشير نصر حامد ابو زيد في كتابه” نقد الخطاب الديني” الى ان دعوة الاسلام في جوهرها هي دعوة لتأسيس العقل في مجال الفكر والعدل وفي جال السلوك الاجتماعي وذلك بوصفهما نقيضين للجهل والظلم ، ويميّز بين الدين ، بما هو مجموعة نصوص مقدسة ثابتة تاريخياً وبين الفكر الديني بما هو اجتهادات بشرية لفهم تلك النصوص وتأويلها واستخراج دلالتها، ليصل الى فكرته المركزية حول اختلاف الاجتهادات من عصر الى عصر ومن بيئة الى بيئة.
وأخيرا يمكن القول، أن مجتمعاتنا العربية في هذه المرحلة التاريخية المظلمة تحتاج الى ثورة ثقافية ومعرفية نقدية وعلمية ديمقراطية ، وتنمية وعي معرفي عقلاني بهدف استكمال مسيرة النهضة الفكرية والعلمية التي بدأه الطهطاوي ، واستعادة قيم التنويرلأجل انجاز نهضة معرفية جديدة من خلال مشروع نهضوي حضاري عربي اسلامي قادر على تجديد الفكر الديني وتخليص الشعوب العربية المضطهدة من مظاهر وأشكال التخلف والجهل والتبعية، وتأسيس المجتمع المدني المتطور والمتجدد المتفاعل مع ذاته والمنفتح على الحضارات الانسانية الاخرى.