( تربته تبر مسبوك ومياه انهاره كوثر عذب وفي العراق بدأت الانسانية وبه ازدهرت )
بهذه الكلمات وصف يوسف رزق الله غنيمة وهو من علماء اللاهوت الكلدان ارض العراق وهي كلمات تعكس عشق مسيحي العراق لهذه الارض التي احتضنتهم بعد صعود المسيح عليه السلام إلى السماء بنحو عشرين عاماً حسب ماورد في أول نص مكتوب عن وجود المسيحيين في بلاد الرافدين الذي ورد في كتاب برديصان في شمال بلاد الرافدين قبل غيرها من المناطق, بعد ان دخلها توماس الرسول ثم ثاديوس وتلميذيه ماري وادي الذي بشّر بالمسيحية في أمارة حدياب (أديابين) اربيل حاليا لمدة خمس سنوات , قبل ان ينضم الى مار ماري في التبشير بالمسيحية في مدينة كرخ سلوخ (كركوك حالياً) والمناطق المحيطة بها
كما ان الحيرة في جنوب العراق قد لعبت دور كبير في نشر الديانة المسيحية وخصوصًا المذهب النسطوري الذي ينسب للبطريق ((نسطوريوس)) المتوفى سنة 450ميلادية، وكان المركز الرئيسي للمسيحية في الحيرة، ومنها تسربت إلى الجزيرة العربية، وتعلم المسيحيون السريانية ، فكتبوا ورتلوا بها ، ثم نشروها في بلاد فارس واليمامة وعمان، ثم من اليمامة انتقلت إلى نجران واليمن ومناطق أخرى قبل ان ينتقل مركز النسطورية الى مدينة ( المدائن) لتصبح مقر المرجع الاعلى(الجاثليق)، واطلق عليها (كنيسة بابل) وهكذا كانت أرض ما بين النهرين أرض مسيحية وآثار الكنائس والأديرة الموجودة في كل بقعة اليوم تشهد على هذه الحقيقة . كان الأيمان راسخاً في القلوب لهذا نجد عدداً أكبر من الكنائس والأديرة في منطقة النجف القريبة من الحيرة .
وبالرغم من انتشار الاسلام فقد بقي المسيحيون حاضرين في الاحداث الرئيسية في العراق وكل متتبع لسيرة الامام علي عليه السلام وقيامه بنقل عاصمة الخلافة من المدينة المنورة الى الكوفة نجد ان الامام وجيشه غالبا ماينزل على اديرة الرهبان ويتبادل معهم الحديث والمعلومات في الدين والسياسة بل حتى عند اغتياله كان حاضرا بجانب سريره طبيب نصراني وهو الذي دعا الامام الى الاستعداد للموت بعد ان وصلت الضربة الى الدماغ . حتى عندما دارت سيوف الجيش الاموي الذي يدعي الاسلام على الامام الحسين عليه السلام وصحبه اندفع وهب النصراني وعائلته للدفاع عن الحسين وال البيت حتى الاستشهاد بين يديه , كما ان الطبيب النصراني كان حاضرا عندما قام بني العباس برمي جثة الامام موسى الكاظم على جسر بغداد ليفحصه ويكشف مؤامرة هارون العباسي بدس السم للامام القتيل .
تمكن المسيحيون العراقيون من ابداع أدبا لاهوتيا وفلسفيا رائعا وقد برز من اشهر المؤرخين وكتاب السريان في القرنين الثالث والرابع “مار افرام السرياني”،الذي خلف مجموعة ضخمة من الأعمال الأدبية والدينية والفلسفية والتاريخية من شعر ونثر، وقد أرّخ حوادث حصار نصيبين من قبل الفرس شعرا من عام 350-370م كما كان قد أقام أكاديمية في نصيبين ثم هجرها إلى الرها بعد أن استولى عليها الفرس وأسس هناك أكاديمية أخرى، ويبلغ ما تركه مار افرام من اثر ثلاثة ملايين من الأسطر شملت مختلف نواحي الحياة. وأثناء الانشقاقات المذهبية قدم السريان أدبا رائعا في جميع مناحي الحياة وبالأخص خلال المجادلات الدينية
التي جرت بين النساطرة واليعاقبة، وقد كان للمدارس التي انشؤوها في كل من نصيبين والرها وجنديسابور وقنسرين، دور كبير في نبوغ الادباء والعلماء الكبار مثل يعقوب النصيبيني وبار صوما ونرسي ويعقوب البرادعي، ومن العلماء سرجيس الرأس عيني وغيره، ومن كتاب التاريخ يشوع العموني وتاريخ الرها للمؤلف المجهول ويوحنا الافسسي وزكريا المدلل. وكانت الاديرة المنتشرة في كافة انحاء العراق مخازن للكتب التي احتوت علوم وفلسفات الشرق والتي عمل القساوسة والرهبان على حفظها للاجيال .
من اشهر علماء السريان الذين أتحفوا الإنسانية بعلومهم حنين بن اسحق وأبي بشير ويوحنا بن جلاد ويحيى بن عدي والكندي وآل بختيشوع وغيرهم، الذين ألفوا وترجموا ونقلوا مختلف العلوم من طبية وفلكية وعلمية ومن اللغات السريانية واليونانية والفارسية إلى اللغة العربية أتحفوا المكتبة العباسية بمصنفاتهم وعلومهم، ولم يدم هذا الازدهار الثقافي بسبب فقدان العرب السلطة وسيطرة الأجانب عليهم وحتى بيت الحكمة (المكتبة العباسية) كان يديرها السريان الشرقيين وان وظيفة طبيب الخليفة كان يشغل دائما من قبل طبيب سرياني. إن علماء السريان وأدبائهم على اختلاف مذاهبهم قضوا اكثر من مائة عام في ترجمة العلوم القديمة من السريانية واليونانية والفارسية إلى العربية وبفضل جهودهم وأوضاعهم العلمية والثقافية
يتوزع مسيحيـّـي العراق إلى عدة طوائف منها الكلدان الكاثوليك ويشكلون القسم الاكبر من المسيحيين، ويقطن غالبيتهم في بلدات الموصل وعموم شمال العراق، مثل تلكيف والقوش وعينكاوا. والآثوريون النساطرة وهم من اتباع الكنيسة النسطورية العراقية، وغالبيتهم قد نزح الى بلدهم الاصلي العراق من المناطق المحاذية للموصل في جنوب تركيا، والتابعة تاريخيا وسكانيا الى بلاد النهرين. لكنهم اضطروا الى النزوح بعد المذابح التي تعرضوا لها في اواخر القرن التاسع عشر واوائل القرن العشرين . والسريان الآرثوذكس اليعاقبة وهم اتباع الكنيسة السورية، والارمن ويعود اصلهم الى بلاد ارمينيا في منطقة القفقاس التي تقع جغرفيا عند اعالي بلاد النهرين، واتباع الكنائس البروتستانية وهم عدة كنائس مختلفة، مثل الكنيسة الانجيلية والكنيسة السبتية، وغيرها. وهم عموما من السريان العراقيين الذين تحولوا الى البروتستانية في العصر الحديث، بتأثير الكنائس البروتستانية الانكليزية والامريكية. وهم اقلية من النخب المدينية المتميزة في الموصل وبغداد.
مع وصول الانظمة العسكرية الى الحكم في العراق من عام 1958 تعرض مسيحيوا العراق الى عملية تضييق ومحاربة غير مباشرة فبعد ان كان المكون المسيحي يحظى بحصة في اي تشكيل حكومي في كافة الحكومات التي تم تشكيلها خلال فترة 1921-1958 وخصوصا في وزارات الصحة والمالية وهذا التضييق دفع بالكثير من العوائل المسيحية الى الهجرة الى خارج العراق وا لاستقرار في بلدان المهجر رغم تعلق قلوبهم بارض الاباء والاجداد . اما من بقي من العوائل المسيحية في العراق فقد كانوا هدفا للمنظمات الارهابية مثل داعش واخواتها كانت كنائسهم ومعابدهم واديرتهم هدفا للحقد الارهابي الاسود .
وهذا العام ومع بداية الاحتفالات باعياد الميلاد المجيد ومع عودة اجراس الكنائس في بغداد والموصل للتصدح في سماء وادي الرافدين فانها تعلن بداية عهد جديد يدعو فيه مسيحيوا العراق في المهجر الى التوحد وان يعملوا ان كان من الصعب عليهم العودة الى ارض الاباء والاجداد فعليهم ان يشكلوا مجموعات ضغط على الحكومة العراقية عن طريق ايصال الاشخاص المؤهلين للدفاع عن مصالح المسيحين في العراق
خصوصا العمل منذ الان على وضع خطط لازمة لايصال صوتهم الى مراكز صنع القرار خصوصا في البلدان التي يكون لهم فيها حضور واضح خصوصا اذا تذكرنا ان اصوات الجالية العراقية في ميشغان كان لها اثر كبير في فوز المرشح للرئاسة الامريكية فاذا كانوا يستطيعون ان يعملوا ذلك في امريكا فان لاصواتهم وزن كبير في الانتخابات العراقية القادمة .
كل عام والجميع في العراق بخير وخصوصا المكون المسيحي لننشد معا ( المجد لله في الاعالي وعلى الارض السلام وللناس المحبة ).