مقال مترجم
بيتر بروك – مخرج مسرحي وسينمائي معروف ,ولد في لندن العام 1925 من ابوين مهاجرين من لاتفيا,اخرج العشرات من المسرحيات منذ عام 1946 , وكذلك العديد من الافلام السينمائية منذ عام 1953 , واصدر عدة كتب تتناول قضايا المسرح ترجمت الى عدة لغات منها لغتنا العربية , وقاد تجربة مسرح الامم في باريس بدعوة من اليونسكو, وهو يعيش ويعمل في باريس منذ عام 1974 ولحد الان.
ض. ن.
… يتميز مسرح تشيخوف بالدقة والبساطة والاصالة..كان تشيخوف يريد ان يكون الاخراج شفافا, وكذلك التمثيل,شفافا مثل الحياة نفسها, لكن عندما نحاول التعبير عن اجواء مسرحياته,فاننا نعاني – بلا ارادتنا- من اغراء منح الجمل طابعا ادبيا, بينما هي بالروسية تجسد البساطة بعينها. ان لغة تشيخوف مركٌزة ومكثٌفة جدا, وهي تذٌكر جزئيا بينتر او بيكيت,اذ كما هو الحال لديهما,يعتبر بناء الجملة مهما جدا, وكذلك ايقاعها والشعر المسرحي للمفردات, التي تشغل مكانها المحدد وتمتلك نبرتها الدقيقة والصحيحة, فعندما يقول شخص- ما كلمة (نعم) مثلا, فانها تعتبر الكلمة الوحيدة التي تعٌبر عن الموقف بشكل كامل, ولا يمكن ان تكون هناك كلمة اخرى …
لم يستخدم شكسبير علامات الترقيم, وتلك التي نجدها في نتاجاته جاءت بعد فترة طويلة. ان مسرحيات شكسبير مثل البرقيات, ويجب على الممثلين انفسهم ان يقسموا كلماتهم الى مجاميع. اما عند تشيخوف, فاننا نجد العكس تماما, فالنقطة والفارزة وتعدد النقاط, كل ذلك مهم بشكل غير اعتيادي, وعندما لا نراعيها او نلتزم بها, فان المسرحية تفقد ايقاعها وتوترها. ان الفواصل بين الكلمات عند تشيخوف تؤدي نفس ادوار علامات البرقيات السرية,اذ انها تعٌبر عن علاقات واحاسيس الشخصيات, وتسٌجل لحظات امتزاج افكارهم وتلاحمها او الحركة الخاصة بتلك الافكار. ان علامات الترقيم تكشف الشئ الذي لزمت الكلمات الصمت عنه.
تشيخوف – استاذ مثالي ونموذجي في مجال المونتاج, فبدلا من الانتقال من مشهد الى آخر ,ومن الممكن حتى من مكان الى آخر , ينتقل تشيخوف من احساس الى آخر , وهو يقوم بذلك رأسا بعد لحظة من التعبير الكامل عن هذا الاحساس او ذاك ,ففي تلك اللحظة, عندما تستحوذ شخصية – ما على الانتباه كليا, يظهر فجأة موقف غير متوقع. كل شئ عند هذا الكاتب المسرحي غير ثابت وغير مستقر. ان تشيخوف يعرض الناس والمجتمع في وضعية متغيرة بلا توقف, انه كاتب الحياة المتحركة دائما, الحياة الجدية والمرحة في آن واحد, المضحكة والمريرة معا. يجب ان ننسى الكآبة السلافية, الموجودة فقط في موسيقى المطاعم الليلية, وهذا هو الموضوع الذي غالبا ما كان يثير الخلافات بينه وبين ستانسلافسكي , اذ ان تشيخوف لم يكن يتحمٌل تلك النبرة الدراماتيكية التي يضفيها المخرج على تلك المسرحيات. ان هذا لا يعني بالطبع, اننا يجب ان نقدم مسرحية ( بستان الكرز ) مثلا, على اعتبارها مسرحية هزلية. ان تشيخوف هو مراقب دقيق جدا لكوميديا الحياة الانسانية. انه طبيب, ومن ثم, فانه يعرف مكنونات حياتنا وجوهرها, ويستطيع ان يشخٌص الحالة المرضية.
توجد في اعماق تشيخوف الرقة ويوجد الانتباه والحنان, ولكن لا توجد في اعماقه تلك العواطف الجيٌاشة. هل يمكن ان نتصور طبيبا يذرف الدموع على آلام مراجعيه؟ ان هذا سيكون منتهى السخف. لكنه مقابل ذلك ,حتى عندما كان تشيخوف عاشقا, فانه كان يلاحظ عدم وجود التكامل وعدم الرضى الداخلي في كيان حبيبته, ولم يمتعض منه, وانما كان يستطيع ان يتعامل معه مبتسما.
يوجد الموت في مسرحيات تشيخوف دائما, الموت الذي نعرفه جيدا, لكن لا يوجد هنا اي شئ مؤلم, كما يحدث في المغالاة الفنية عند الاخرين. ان الاحساس بالموت مرتبط عنده بالتشوق تجاه الحياة والموت. لقد جاب تشيخوف الحياة طويلا, وشارك في جوانبها الاجتماعية, وكتب, واحب, ومات شابا, وعندما كان يموت طلب كأسا من الشمبانيا, اما جثته , فقد نقلوها في عربة قطار مكتوب عليها (محا ر طازج)… ان هذه الفكرة عن الموت وعن اللحظات الثمينة التي بقيت لديه في الحياة, هي التي كانت تمنحه دائما الوعي, بان كل الاشياء نسبية, وبتعبير آخر ,هي التي ساعدته ان يحافظ على تلك المسافة الكافية , كي لا يغيب عن باله ابدا الجانب الكوميدي للدراما …