23 ديسمبر، 2024 2:11 م

مسرح السفاهات الوطني

مسرح السفاهات الوطني

تتدلى هذه الايام على جدران المسرح الوطني قطعة كبيرة من القماش كتب عليها ما يلي :
مفاجأة…مفاجأة … بشرى سارة… الفنانة العراقية العربية  دالي على خشبة المسرح الوطني في مسرحية..تو…وي…
وفي القطعة صورة مثيرة للمغنية الراقصة دالي تنظر الى الناس بعينين شهوانيتين تقولان: هلّموا الي …
لوهلة…ظننت ان اللافته تخص ملهى من ملاهي بغداد…ثم أدركت أن اللافتة هي لمسرحية تعرض حالياً في المسرح الوطني!!!…
ماذا كان يظن القائمون على المسرح الوطني عندما قررا تعليق اعلانهم هذا… هل  كانوا يظنون  ان اهالي بغداد (سيفاجئون) و (يستبشرون) بقدوم راقصة متهتكة تعبت من الردح والرقص في البلدان الاخرى فجائت الى بغداد كآخر محطة لها لهذا العام لكسب بعض المال كي (تمشي امورها) لحين بدء موسم الرقص والردح قبل رمضان القادم؟؟؟…
كان يقال في السابق (اعطني خبزاً ومسرحاً, اعطيك شعباً واعياً )…
المسرح الوطني … صرح شامخ … كان معداً له ان يرفع بالذائقه الفنية العراقية, لا ان ينحط بها الى اسفل سافلين بمسرحيات سفيهة رخيصة تستجدي الضحك والرضا بأي طريقة كانت…سواء بالغناء أو الرقص أو العبث أو الزعيق أو الجنون…أو أي شيء…
ماذا يهدف القائمون على المسرح الوطني من جلب هذه ( المفاجأة والبشرى السارة)الى بغداد؟ وهل نحن بحاجة الى مزيد من الراقصات والرادحات؟… اشو ماشاء الله الملاهي كثيرة… وكل شهر تفتح قناة فضائية  جديدة تردح اربع وعشرين ساعة… وصار المطربون والملحنون يولدون ويشتهرون في ليلة وضحاها , يسفهون اذواق الناس بكلمات فجه مخجلة. وبسلامة شباب مثل الاخوين رأفت البدر ونصرت البدر(الفيل يطير…!) وحسام الرسام واشباههم، الطرب والرقص والفجور بخير , وكما قالوا ( بيت الطرب ماخرب) , اذ ان جمهور هؤلاء واسع جداً، خصوصاً من شبابنا الجامعي ( المتخلف جداً) من الذكور والاناث , حيث يمسون ويصبحون على انغام الاخوين البدر والرسام ومن لف لفّهم.
انا استطيع ان افهم لماذا تحتفل هوليوود بممثل مثل مورغان فريمان واعتباره ثروه وطنية كما أطلق عليه. وأستطيع ان افهم لماذا تحتفل بلاد الهند بممثل اسطوري مثل اميتاب باجاجان , واستطيع ان افهم لماذا يحتفل المصريون بممثل مثل عمر الشريف الذي نال شهرة عالمية كبيرة من خلال بعض افلامه التي تعتبر من افضل ما انتجته السينما العالمية مثل ( لورنس العرب) و ( دكتور زيفاكو) . ولكني لا استيطع ان افهم كيف يتوقع القائمون على المسرح الوطني ان يحتفل اهل بغداد بقدوم راقصة مغتربة تعاني من مشكلة واضحة في الوزن مثل دالي ؟!…
تفسيري لهذا الشيء هو احد امران : اما انهم علقوا هذا الاعلان تملقاً لدالي نفسها … لنيل رضاها والتقرب منها…بالعراقي (لواكة)!…لغاية في نفس……أجلّ أسم النبي عن هذا…
 او انهم لا يفهمون طبيعة المجتمع البغدادي ويضنون ان  الناس في بغداد هم عبارة عن اقوام من الفجار السفله , يتهافتون على المفاتن المبتذلة للراقصات. ويقضون أيامهم ولياليهم في ملاهي الطرب والفجور…
العراقيون في بعض جوانب الفن نجحوا نجاحاً باهراً , وفشلوا في جوانب اخرى فشلاً ذريعاً . فمثلاً , نعلم انهم محترفون في الفن المسرحي،  لذلك نراهم يحصدون الجوائز كلما سنحت لهم فرصة المشاركة في مهرجان عربي، وحتى في بعض المهرجانات العالمية . وبراعتهم في المسرح تلك أثرت سلباً على براعتهم في الدراما…أذ أن السبب الرئيسي في عزوف المشاهد العراقي عن متابعة المسلسلات العراقية هو لأن الممثل العراقي (مبيّن عليه يمثل)…عكس الممثل المصري أو السوري أو التركي الذي ينسيك وجود الكاميرا. السبب الحقيقي هو أن الممثل العراقي هو ممثل مسرحي بالدرجة الأولى، لذلك نرى الأداء المسرحي قد أنسحب وطغى على أدائه في التلفزيون. أما السينما العراقية، فليس هناك شيء يسمى السينما العراقية، فلاداعي للحديث عن شيء غير موجود…
الخلاصة… أن المسرح هو صنعة الفنان العراقي…فكما يجيد البرازيليون لعبة كرة القدم، يجيد العراقيون لعبة المسرح…وللمسرح قيم مرموقة عندهم…والشعار أعلاه ( أعطني خبزاً ومسرحاً….)  يردده أصحاب الأختصاص بكل اعتزاز، ويحاولون جاهدين التمسك بقيمه والأخلاص له…
لذلك يرى حاملي هذا الشعار، عرض مسرحيات رخيصة مثل مسرحية دالي أعلاه، والدعايات الرخيصة التي ترافقها باستخدام المفاتن المبتذلة…يرون ذلك أساءة بالغة لتأريخ وقيمة المسرح العراقي، علاوة على الأساءة البالغة لقيم وأخلاق المجتمع بشكل عام.
مانخشاه أكثر هنا، هو أن يتحول هذا الصرح الفني (المسرح الوطني) المزدحم بالأمكانيات والكوادر والمواهب…أن يتحول الى سوق للبضاعة الرخيصة، وملهى لنشر السفاهات والأبتذال والضحك على الذقون…

[email protected]