بعد أكثر من عقد، على اندلاع الحرب في سوريا، يبدو المشهد اليوم أكثر تعقيداً من أي وقت مضى، فلم تعد الحرب مجرد صراع داخلي بين نظام ومعارضة، بل تحولت لساحة لتصفية الحسابات الدولية، وإعادة رسم خرائط النفوذ الإقليمي، ومع تأكد خروج بشار الأسد، تتضح ملامح لمستقبل سوريا بشكل تدريجي.
وفقاً للمعطيات الراهنة، فإن الساحل السوري، حيث تقع مدينتا طرطوس واللاذقية، كما يبدوا سيبقى تحت السيطرة الروسية، فمنذ بداية التدخل الروسي في الحرب السورية، كان من الواضح أن هدف موسكو، ليس فقط دعم نظام الأسد، بل ضمان وجود استراتيجي دائم في البحر المتوسط، وموانئ طرطوس واللاذقية ليست مجرد منشآت اقتصادية، بل هي قواعد عسكرية تعزز نفوذ روسيا في المنطقة، مما يجعل الحفاظ عليها، مسألة غير قابلة للتفاوض.
على الطرف الآخر، يبدو أن الشمال السوري بات تحت قبضة تركيا، التي لا تخفي أهدافها الاستراتيجية هناك، فبالنسبة لأنقرة الأولوية المطلقة، هي منع إقامة كيان كردي مستقل، على حدودها الجنوبية، لأن مثل هذا الكيان يشكل تهديداً لأمنها القومي، لذا دفعت بقواتها لإنشاء ما يسمى “المنطقة الآمنة” حيث أصبحت هذه المنطقة بمثابة “حزام أمني” يفصلها عن الميليشيات الكردية، في حين أصبحت المعارضة السورية المدعومة من تركيا، جزءاً من المشهد الجديد في هذه المنطقة.
أما دمشق العاصمة التاريخية لسوريا، فيحتمل ان يتحول جزء من “ريفها” إلى “كانتون علوي” معزول تحت سيطرة النخبة العلوية، مع ضمان حماية المقدسات الدينية وعدم المساس بها، ويبدو هذا السيناريو مشابهاً لتجربة لبنان، حيث يتحول النظام السياسي إلى “فسيفساء طائفية” لكل مكوّن فيها “كانتون” خاص به.
في هذه الحالة، قد يبقى للعلويين نفوذ سياسي وإداري محدود في دمشق، بينما يتم تفكيك ما تبقى من مؤسسات الدولة السورية المركزية.
لكن هذه التحولات تطرح تساؤلات مهمة: لماذا تخلى الجميع عن نظام الأسد؟ ولماذا تستمر المواجهة، رغم محاولات بسط الاستقرار، عالاقل من قبل المعارضة؟
إن التخلي عن الأسد، كان نتيجة عوامل متداخلة، بالنسبة لروسيا التي كانت الحليف الأهم له، فلم يعد الأسد أصلاً استراتيجياً، بل صار عبئاً مكلفاً، ولقد أدت روسيا مهمتها، في تأمين مصالحها عبر الموانئ وقواعدها العسكرية، ولم تعد بحاجة إلى شخص الأسد بقدر حاجتها إلى نظام مطيع، يضمن لها استمرار نفوذها..
إيران من جانبها، فقد استفادت من الأسد لتعزيز خطوط إمدادها إلى “حزب الله” في لبنان، لكن مع ازدياد الضغط الدولي والعقوبات، أصبحت في موقف ضعيف لا يسمح لها، بالاحتفاظ بهذا العبء الثقيل، كذلك تخاذل الأسد في فترة الحرب، بين حزب الله والكيان، وانصياعه لأوامر إسرائيل.
الدور الأمريكي والإسرائيلي في هذا التخلي لا يمكن تجاهله، فمنذ فوز دونالد ترامب بالإنتخابات، ازدادت الضغوط لتفكيك شبكة الإمداد الإيراني، الممتدة من طهران إلى بيروت، مروراً ببغداد ودمشق، هذا الخط الحيوي، الذي كان يمر عبر سوريا، أصبح هدفاً استراتيجياً لإسرائيل، التي استغلت الدعم الأمريكي، لشن هجمات جوية متكررة، على مطار دمشق الدولي، وعلى قوافل الإمدادات.
يبدو أن “إسرائيل” تريد قطع الشريان الذي يربط “حزب الله” بإيران، ولهذا لم يعد وجود الأسد في الحكم يخدم هذا الهدف، بل على العكس، قد يكون التخلص منه أفضل، لضمان إعادة هيكلة السلطة في دمشق، بطريقة تضمن عزل “حزب الله”.
لكن لماذا تستمر الحرب، رغم الحديث المتكرر عن وقف إطلاق النار؟
الحقيقة أن “وقف إطلاق النار” في لبنان ليس أكثر من “استراحة محارب” لإعادة التموضع، وليس اتفاقاً دائماً للسلام، وإن إسرائيل، تحتاج إلى فترة هدوء مؤقتة، لترتيب أوضاعها العسكرية، وتحديد مواقعها في الخريطة الجديدة، هذه الاستراحات تُستخدم غالباً لنقل الأسلحة، تعزيز القوات، أو انتظار تغييرات سياسية في العواصم الكبرى مثل واشنطن.
ما يحدث في سوريا يمكن فهمه ضمن مشروع “الشرق الأوسط الجديد” وهو المشروع الذي بدأ منذ حلف بغداد عام 1955، حين بدأت القوى الدولية تتحدث عن ضرورة “تجزئة المجزأ” و”تفتيت المفرق” فالهدف كان خلق كيانات صغيرة، قائمة على أسس طائفية وعرقية، بحيث تظل هذه الكيانات، عاجزة عن مواجهة المشروع الإسرائيلي، التجزئة التي يتوقع ان نراها في سوريا اليوم، ليست سوى استكمال لهذا المخطط، فالعلويون في ريف دمشق، والأكراد في الشمال الشرقي، والسنة في المناطق الوسطى والشمالية، والشيعة في بعض أجزاء الجنوب، كلهم باتوا أدوات، في لعبة كبرى يديرها الآخرون من بعيد.