18 ديسمبر، 2024 7:21 م

مستقبل العالم بعيون الروائيين الإسكندنافيين..!

مستقبل العالم بعيون الروائيين الإسكندنافيين..!

يغلب لدينا الانطباع بأن مواطني الدول الإسكندنافية هم الأهدأ بالاً في العالم. فهم بعيدون عن مناطق الحروب، ويعيشون في بلدان سلمية توفر لسكانها سبل الرفاه والسعادة. لكن العالم لا يمكن أن يكون جزراً منفصلة ينعزل الفرد فيها على طريقة روبنسون كروزو. ويعبر الروائيون الاسكندنافيون عن إحساسهم بالعالم وتفاعلهم معه بطريقتهم الخاصة، حين يتصورون عوالم كابوسية مريعة تقود إليها الاتجاهات البشرية الراهنة المدمرة.

اشتبكتُ من خلال عملي في الترجمة مع عملين روائيين اسكندنافيين، يخرج القارئ منهما بصدر منقبض بعد أن يعيش في عوالم قاتمة من صنعة البشر. الرواية الأولى هي “ذاكرة الماء”، مترجمة بعنوان “حراس الماء” للروائية الفنلندية إيمى إيتانتورا. وترسم الرواية صورة لحقبة تسود فيها الحروب على الماء، بعد حقبة الصراع على النفط. وتكون حروب النفط قد خلفت كوكباً مدمراً بسبب صراع البشر من أجل السيطرة والثراء. وهو عالم غريب تغيرت خرائطه وتكويناته عما نعرفه الآن. وسمته الأساسية ندرة الماء، أساس الحياة البشرية، وذهاب التحكم فيه إلى السلطات التي تحتكره وتوزعه على الناس في حصص لا تكاد تكفي لأساسيات الحياة.
في عالَم إيتانتورا، يسود مشهد قاحل شبحي يتحرك فيه الناس مع الخوف والانفصال عن سياق الحياة البشرية التاريخي. ويكون كل ما تبقى لديهم ليعرفهم بالماضي هو بقايا اختراعات قديمة يجدونها في أكوام الخردة، مثل آلة عرض أقراص مدمجة مدمرة، وأقراص ممسوحة مقطعة تصور شيئاً من عالمنا نحن، الذي يصبح في ذلك الوقت القادم كأنه قصص ساحرات. ومع حاجة الناس الوجودية إلى الماء، يتعرض الذي يكتشف مصدر ماء عذب ويتكتم عليه إلى عقاب من السلطات لا يقل عن حياته نفسها.
الرواية الثانية، هي “تاريخ النحل”، المترجمة بعنوان “حين اختفى النحل” للروائية النرويجية مايا لوندي. وتتصور الروائية عالماً انقرض فيه النحل نتيجة حدث عالمي عظيم تسميه “الانهيار”. ومع أن معظمنا يستهين بهذه الحشرات الصغيرة ولا يعرف عن أهميتها أكثر من قطاف العسل أو الخوف من لسعاتها، تنبه الرواية إلى الدور الحاسم الذي يلعبه النحل، باعتباره الوسيلة لنقل غبار الطلع، أو حبوب اللقاح، من نبتة إلى أخرى. وهذا التلقيح للزهور هو الذي يجعلها تطرح ثمراً، والذي ليس هناك ثمر بدونه.
لا يعرف القارئ بالضبط تفاصيل “الانهيار”، لكنه يستنتج من السرد أن هذه الحشرات الصغيرة تنقرض بسبب العدوان البشري على البيئة والعبث بها، سواء بالاستخدام الجائر للمبيدات الحشرية، أو الصراعات وبقية النشاطات التي تخرب المناخ وتعبث بدرجات حرارة الكوكب. وتكون النتيجة ندرة الطعام وموت أعداد كبيرة من سكان الكوكب، وتحكم السلطات أيضاً في حصص الطعام وفرض أنظمة من الرقابة الصارمة على مواطنيها والتحكم في أدق تفاصيل حياتهم. وعلى سبيل المثال، يعمل المواطنون الناجون في الصين في عصر انقراض النحل، في تلقيح الزهور بالعمل اليدوي الإجباري والمضني، بحمل حبوب اللقاح في وعاء وتسلق الأشجار لوضعها على الأزهار زهرة زهرة. ويدير “الحزب” في ذلك الزمن دولة خرِبة أشبه بالأطلال، تجبر الناس على العمل من سن الثامنة وتضبط حركتهم وتراقبهم بشدة من أجل إدامة الحياة.
نقرأ ونسمع كثيراً عن التنبؤات بقدوم عصر جليدي جديد، أو عن دمار العالم بسبب خطأ قد يُشعل حرباً نووية. لكننا لا نتأمل كثيراً في الأدوار التي نلعبها كبشر في جعل الحياة مستحيلة على هذا الكوكب لأجيالنا القادمة. ومع أن الروايات من النوع المذكور تُصنف أحياناً في خانة “الخيال العلمي”، فإنها ليست خيالية تماماً في حقيقة الأمر. تستطيع الحروب، وجشع المصنعين من أجل جني الثروة، والجور على الطبيعة وتخريب البيئة، أن تجعل الماء نادراً إلى حد العوز في هذا العالم. ويمكن أيضاً أن ينقرض النحل، أو أن تتخلق السبل لإرباك عمل النباتات، ويصبح الجوع هو السيد.
ربما يحاول الإسكندنافيون، من منظور أكثر رحابة تتيحه الرؤية الأوضح من خارج مشهد الصراع، أن يدقوا جرس الإنذار إذا كان ثمة من يسمع. وهم محقون في القلق من التداعيات الكارثية التي لا بد أن تقود إليها الوجهات البشرية المجنونة التي سمتها الأوضح: الانتحار الجماعي!

نقلا عن الغد الاردنية