23 ديسمبر، 2024 10:27 ص

مستقبل الدولة العراقية مابعد الانتصار على داعش

مستقبل الدولة العراقية مابعد الانتصار على داعش

بعد كل حدث عام يشهده العراق يثبت سكانه لأنفسهم بردود افعالهم المتقاطعة قبل ان يثبتوا للآخرين كما لو انهم مجموعة شعوب ليس بينها من الروابط مايمكن ان يجمعها تحت سقف وطن واحد.

هذا الاستنتاج ينسجم تماما مع ماقاله عنهم الملك فيصل الاول الذي حكم المملكة العراقية عند تأسيسها عام 1921 ” اقول وقلبي ملآن اسى،انه في اعتقادي لايوجد في العراق شعب عراقي بعد ،بل تكتلات بشريه خالية من اي فكرة وطنية،متشبعون بتقاليد واباطيل دينية،لاتجمع بينهم جامعة، سمّاعون للسوء،ميالون للفوضى،مستعدون دائما للانقضاض على اي حكومة كانت،ومع هذه الحالة فاننا نريد ان نشكِّل شعبا ونهذبه وندربه ونعلمه،ولكم ان تتخيلو صعوبة هذا العمل وعظمة الجهود التي يجب ان تصرف لاتمام هذه القضية” .

في 21 حزيران (مايو) 2017تم تفجير منارة الحدباء في مدينة الموصل والتي تقع وسط جامع النوري، من غير ان يعرف لحد الآن الظروف التي رافقت عملية التفجير خاصة وأن اية جهة لم تصدر بيانا تعلن فيه مسؤوليتها عنه صراحة بما في ذلك تنظيم الخلافة(داعش)الذي القى بالمسؤولية على طيران التحالف الدولي بقيادة الاميركان عبر شريط فديو اصدره التنظيم ، تضمّن لقاءات مع عدد من الاشخاص يقفون عند انقاض المنارة،ولربما هذه هي المرة الوحيدة التي يتنصل فيها تنظيم( داعش )من مسؤوليته عن عملية تفجير احد الجوامع، مع انه كان اقدم في وقت سابق اثناء سيطرته على محافظة نينوى على تفجير ابرز الجوامع التاريخية في مركز مدينة الموصل والتي يعود تاريخ بنائها الى مئات السنين،وكانت تضم داخل ابنيتها اضرحة لشخصيات تاريخية او دينية، والبداية كانت مع جامع النبي يونس عندما اقدم على تفجيره في 26 حزيران 2014 ثم تبع ذلك جامع النبي شيت والنبي جرجيس والنبي دانيال ومرقد وضريح يحيى ابو القاسم،هذا اضافة الى محوه كافة الرموز والاشارات الهندسية والتاريخية المحفورة على جدران بقية الجوامع مثل النجمة الثمانية العباسية .

ومما يثير التساؤل ان تنظيم داعش كان قد استهدف في عمليات التفجير جوامع ومساجد المسلمين سنة وشيعة ،بينما تعامل بطريقة اخرى اقل قسوة مع كنائس المسيحيين ! مع انه هجرهم من بيوتهم ومناطق سكناهم في الموصل وفي سهل نينوى،واستولى على جميع املاكهم باعتبارها غنائم حرب مثلما فعل مع الايزيدية وإن كان مصاب الايزيدية اقسى من الجميع بعد ان سبى واغتصب نسائهم وقتل شيوخهم،وعلى ذلك بقيت الكنائس على حالها إلاّ انه استباح ماتحويه من اثاث وحرق جميع محتوياتها الثمينة مِن كتب ومخطوطات نفيسة،كما حطم كافة الرموز المسيحية فيها مثل الصلبان وايقونات تمثل المسيح ومريم العذراء هذا اضافة الى تشويه الرسوم في سقوفها وجدرانها .

ما يهمنا هنا التوقف امام ردود افعال العراقيين ازاء حدث تفجير منارة الحدباء التي يعود تاريخها الى اكثر من 850 عام ، وكان جامع النوري الذي تتوسطه المنارة قد بناه مؤسس الدولة الزنكية الأمير نور الدين محمود زنكي عام 1173م في مركز مدينة الموصل وسمي بالجامع الكبير نظرا لسعته وفخامة بنائه .

اعقب حدث التفجير انقساما حادا بين اصوات محسوبة على السنة والشيعة عكسته مواقع التواصل الاجتماعي، بل ان هذه النقاشات الحادة كانت قد استبقت حدث التفجير بعدة اسابيع عندما تم تداول فرضية قصف الجامع والمنارة اذا مااقتضت ظروف المعركة ذلك .

الاصوات السنية عبرت عن حزنها الشديد لتدمير اثر ديني وتاريخي، اضافة الى ماتمثله المنارة من علاقة وجدانية مع سكان الموصل عبر هذا التاريخ الطويل من عمرها.

بينما استهجنت الاصوات الشيعية هذا المأتم التراجيدي الذي اقامه السنّة حسرة على تدميرالمنارة،وحسب وجهة نظرهم ماهي إلاّ مجرد طين مفخور لايساوي شيئا أمام دماء ابنائهم الذين يسقطون يوميا في الحرب التي يخوضونها في الموصل نيابة عن سكانها.

ردود الافعال كلا الطرفين جاءت كما لو أنهما جوقتان موسيقيتان تعزفان مقطوعتين مختلفتين في آن واحد بشكل سيء .

وسط هذا الجدل الذي لانهاية له كانت تتعالى اصوات من هنا وهناك تحمل الكثير من عبارات التشنج والاساءات،ساخرة ومستهزئة بمشاعر الطرف الآخر .

ربما يتسائل البعض عن العوامل والاسباب التي جعلت سكان العراق يستمرون بالعيش معاً تحت سقف وطن واحد طيلة المائة عام من تاريخ الدولة العراقية الحديثة على الرغم من هذه الانقسامات المذهبية الحادة فيما بينهم،وعلى الارجح فإن ذلك يعود الى سلطة الدولة وقسوة اجهزتها الأمنية في تعاملها مع سكان العراق،وهذا يشمل جميع الحكومات التي تعاقبت على حكم هذا البلد دون استثناء، انتهاء بالنظام السياسي القائم الذي جاء بعد الغزو الاميركي عام 2003 ولعل النتائج التي تمخضت عن سياسات هذا النظام قد عمقت الشروخ القائمة مابين مكونات هذا الشعب بكافة اطيافه،فلم يعد الانقسام مقتصرا على السنة والشيعة بل تعداه الى بقية الاديان والقوميات والاقليات،وإذا مابدا على سطح الصورة العامة توافقا قائما بين هذا الطرف وذاك،فهذا مرتبط بظروف الصراعات والتوافقات السياسية المشروطة بفترة الانتخابات النيابية او المجالس المحلية وماأن تنتهي هذه الحفلة تنفرط عرى التوافق مابين المتآلفين .

سيكون من الصعب ان يستمر العراق موحدا طالما العلاقات مابين مكوناته قد وصلت الى مرحلة متأزمة ربما ستؤدي الى حالة من الاحتراب في مرحلة قادمة،وعلى الاغلب لن تكون بعيدة عن ما ستتمخض عنه المعركة العسكرية التي يخوضها الجيش العراقي ضد تنظيم الخلافة(داعش)في الموصل،فالنزاع مابين سلطة بغداد وحكومة اقليم كوردستان لايحتاج الى ادلة للاشارة اليه،وملفاته التي تتعلق بقضية نفط الاقليم والاستفتاء على حق تقرير المصير بالنسبة للكورد اضافة الى قضية المناطق المتنازع عليها والتي تكفي ولوحدها لكي تكون منطلقا لصراع مستقبلي يحمل الكثير من الصور المرعبة فيما لو وقعت الواقعة،خاصة وان هناك الكثير من الاطراف ــ محلية واقليمية ودولية ــ تلعب دورا واضحا في تأزيمه وعدم حلحلته، لعل ابرزها ايران وتركيا والولايات المتحدة الاميركية هذا اضافة الى قيادات في الحشد الشعبي العراقي ماتنفك بين فترة واخرى تطلق تصريحات تحمل الكثير من عبارات الاستفزاز والتهديد باجتياح اقليم كوردستان.

ومابين هذا الصراع القومي(العربي الكوردي) يبقى الانقسام الطائفي الحاد (السني الشيعي) متصدرا المشهد العراقي ولايمكن للمهرجانات المشتركة التي تقام بينهما تحت شعار(اخوان سنة وشيعة هذا الوطن مانبيعه)أن تلجم هذا الانقسام،او تتفادى تأثيراته ونتائجه المستقبلية على وحدة الوطن العراقي .

ونتيجة لتعقيدات المشهد العراقي باطاره السياسي كان من الطبيعي ان تشعر بقية المكونات الاخرى بالخوف على مستقبل وجودها في وطنها الاصلي مثل المسيحيين والايزيدية،ومن هنا بدأت تتعالى اصوات تمثل هذه المكونات تطالب باقامة فيدراليات او كانتونات لتفادي مايمكن ان يسفر عنه الاحتقان مابين السنة والشيعة من جهة والعرب والكورد من جهة اخرى .

بنفس الوقت هناك الكثير من الاصوات المحسوبة على القوى العربية السنية ماعادت تخفي اجندتها في اقامة اقليم على اسس طائفية او الانفصال عن الدولة العراقية مبررة ذلك في غياب النية الصادقة لدى التحالف الوطني الشيعي الحاكم في العمل وفق قيم الشراكة الوطنية وما ارتكبته حكومة بغداد من عمليات تهميش واقصاء بحق العرب السنّة هذا اضافة الى مالحق المناطق التي يشكلون فيها الاغلبية السكانية من دمار كبير.

سننتظر حسم المعركة العسكرية مع تنظيم(داعش)التي وصلت الى نهايتها ولم يبقى سوى ساعات على اعلان نهايتها لصالح القوات العراقية،وعندها سنقف امام مرحلة سياسية اشد واعقد من التي واجهتها الدولة العراقية منذ تأسيسها ، فإما أن تقف على قدميها او ستفقد بعض اطرافها .