23 ديسمبر، 2024 3:46 م

مروءات الوائلي: صدمة العنوان .. وضوح المتن

مروءات الوائلي: صدمة العنوان .. وضوح المتن

عن ” لا جدوى من البكاء أبداً”، الكتاب الشعري الأول للشاعر جبّار الوائلي  ذكر الناقد التشكيلي خالد خضير في كتابه” قيم تشكيلية في الشعر العراقي” ما يلي :  “الفعالية الشعرية لدى الوائلي تنشطر في بؤرتين مولدتين تتشكلان ضمن (مجرتين) نصيتين تهيمنان على فاعلية التأويل النصي:مجرة الحكمة ذات البساطة التي تعنى بالانزياح  الدلالي، من جانب، ومجرة الشعر التي تعنى بالانزياح اللغوي،من جانب مقابل، والوائلي، في كلتا المجرتين، يحاول أن يقف موقفاً (وسطاً) بشكل لا يطمس فاعلية واحدة من هاتين المجرتين وطغيانها على الأخرى(ص 59 ). ثم صدر للشاعر الوائلي كتابه الشعري الثاني “الريح.. وما تشتهي”دار الينابيع – دمشق . وألحقه بكتابه الثالث الصادر حديثاً، بعنوان” المروءات.. غادرت محطات بلادي”* ونرى أن تشخيص الناقد خالد خضير ينطبق على كتابي الوائلي  الأول و الثاني فقط . فهو لم يستفد من تجربته في الإصدارين السابقين ويعمقها في كتابه هذا. أثار عنوان المجموعة الشعرية الثالثة (للوائلي) تحفظات كثيرة في الوسط الثقافي البصري، وتعددت أسباب وتوجهات تلك التحفظات ، ولسنا هنا في وارد التطرق إليها، كونها وجهات نظر تخص مَنْ ذكرها ،ولعل بعضها يمتلك حق ما رأه وشخصه في العنوان ، لأسباب لسنا في وارد التطرق اليها . إذا ذهبنا إلى الغلاف الذي صممته :” الفنانة أمينة صلاح الدين” نجد عيناً بشرية أنثوية مذهولة، متسعة، حزينة، يطغى عليها لون حزين يحفّ به السواد مع احمرار في بؤرة العين. عين منكسرة مذهولة تبدو كما لو أنها تودّع راحلاً عزيزاً بدمعة تسقط في فراغ موحش في تمثيل مرئي بسيط للقنوط  والإحساس بالفقدان الذي يكتمل بمفردة مرئيّة أخرى تعزز الشعور به بمشهد طائر أقرب إلى أن يكون غراباً تسمّر على غصن شجرة احترقت تماماً.  الفنانة”صلاح الدين”، كما يبدو، قامت بترجمة العنوان بَصَريّاً وكثفت دلالته بمفردات جاهزة بسيطة، وكانت بمثابة مترجمة للعنوان فقط أقرب منها إلى فنانة خلاقة لها رؤى خاصة،كونها قد قامت بتصميم عدداً كثيراً من أغلفة الكتب، وكان يمكن لها بشيء من الجهد البسيط و الضروري والذي لابد منه ، الاطلاع على متن الكتاب كي تتمكن من تصميم غلافه، لا أن تكتفيَ بعنوانه فقط. بعد تلك التحفظات برر الوائلي هذا العنوان:” بأنه بمثابة صرخة مريرة، تحمل عمق دلالاتها لكل مفردات حياتنا الراهنة وهو تجسيد  للواقع المرير الضاج  بتكالب الصراعات على العراقيين”. إذن العنوان لدى الوائلي بمثابة (المفتاح) للولوج إلى  نصوصه. عنونة النص ومرموزاته تشكلان منفذاً لقراءته، كما جاء في كتاب “ثريا النص- مدخل لدراسة العنوان القصصي/ وزارة الثقافة والإعلام- بغداد- دار الشؤون الثقافية العامة- الموسوعة الصغيرة- 1995/ لأستاذنا “محمود عبد الوهاب” الذي أشار في حواشي كتابه ، بأنه استعار عنوان ” “ثريا النص” عن مقالة للناقد د. حاتم الصكر، والذي بدوره ينسبه إلى” جاك دريدا”، وقد تنبه لمسألة العنوان وأهميته، الشاعر الفرنسي “ملارمه” الذي تطرق إلى” الثريا” الواقعة في سقف النص عند قراءته لقصائد  الشاعر “موريس جيلمو”. لكن أستاذنا “محمود عبد الوهاب” نقله من حقل الشعر إلى حقلي القصة والرواية، وله هنا الريادة في بحث هذا الموضوع. وقد بحث (ياكوبسن) العنوان بصفته مُكَوناً من بنية النص وذكر أن له أكثر من وظيفة  بعضها المرجعية المركزة على الموضوع ووظائف أخر منها التحريضية والأيديولوجية وغيرها. تألفت مجموعة الشاعر الوائلي من (26 ) قصيدة و بـ(110) صفحة من القطع المتوسط. ثمة فيها أسئلة متواصلة عن  فجائع للمصائر الإنسانية المجهولة والمغيبة، وما يبعثه ذلك من أسى لتحقيق توصيفات لها عبر بؤر تتجسد في شخصيات تقبض عليها الذاكرة لمغالبة الحاضر والتداخل بين ما هو مجرد وملموس. يفتتح الوائلي مجموعته هذه بقصيدة يهديها إلى، المستشار في وزارة الثقافة العراقية، الشهيد”  كامل شياع.. حصراً”:                 
 تكابير
في صلاة الروح،
تعالت في ضمائرنا.
بكاء الهمس ترانيم يصافحنا،
 شهيد في عيون الليل،
مصباح يودعنا “
” فهذي الدنيا عاتية
وصار الموت تسيرا
وصار الشوك في حيتانه غارا!!”
” هضيمات ليالينا،
تستبكي بحد فاقه الحد.
وفي الأعماق تنهد.
عصافير زغيبات بقت تحدو
 وحتى الريح بثوب الحزن،
صاغرة..
بدت تشدو!!”.
” يمر النعش “مزفوفاً” على الاكتف
حناجرنا..
 تشق عتمة الليل به تهتف.
زوابع دق الطبل
في ترحاله أمس.
علا صوت..
رفيق الدرب توسد تربة الرمس”.
” الوائلي” يتابع تلك الشخصيات الخارجة من فجائعها لتقترب من حواف الغياب، بفعل قوى قاهرة متعددة وبأفعالها الوحشية المتواصلة ، هناك وطن بأسره يترنح أو قد يتصدع ومعه شعبه يُذبح يومياً. لكنه مع عنوان كتابه الصادم هذا والذي نرى انه يجنح للإطلاق، فإنه في المتن، يفتح فسحة لأملٍ ما:
” فابشري
يا ارض جدي
أنت ثورة في عروقي،
قد تسامت كبرياء                                                                    فتلاشى..   
صوت ذاك البوم،
من قلب المدينة.
واتى الخصب يغني بالمزامير الحنينة”.
تنوعت قصائد المجموعة بين شعر التفعيلة الذي اعتمده الوائلي في مجموعتيه السابقتين، بحكم ممارساته السابقة في الكتابة فيه، وبعض قصائد النثر القصيرة:
  “عزمت..                                                                          أن اشطب مرارة
خرائط العمر المداف “
” لملمتني..
باكتظاظ غمامات السراب
وبغرابة سألتني:
إلى أي وطن تنتمي!؟
فخيم صمت الوجوم.”
“أي نور قد تدلى
أي غيث يغسل أحزان صمتي”
” لا غرابة..
أن تنهش دمي
 أنياب الضواري،
سحر أحلام الحياة.”
“نحن أدرى..
عجاجهم تحركه سرابل حمق!
 مأمورة..
بظلام وصايا الغرباء!؟”
 “كنت بالأمس..
أدندن أنشودة..
تترجم خفايا الجراح.
برفيف أجنحة بيضاء.
فأصطادها القناص،
 بحماقة..
ونعتوها بهلوسة الفسوق!!”
“ملتحفاً عباءة النسيان،
و بجفلة ذعر،
احتمي بأحرفي الخرساء”
“تحت خيمة الخوف،
أسدل طاقية الإخفاء
مضاضة..
وأسدل الستار!!”
” ال بدأ وائلي” بدأ المشاركة في المهرجانات الشعرية والثقافية الجامعية عندما كان طالباً في كلية الآداب/ جامعة البصرة/ أوائل السبعينات، وبعد ذلك في كلية التربية/ الدراسات العليا / للحصول على الدبلوم العالي/ قسم اللغة العربية – جامعة بغداد. قصائد الوائلي يكتبها بعفوية وتنطق بأفكارها ضمن مسار وحضور آني وتلقائي وانفعالي، مما ينعكس على لغته الشعرية التي تقدم نفسها ، ضمن صيغ كلاسيكية، مع أنه يسعى لاعتماد الحداثة الشعرية ، وبعضها، تفتقد الغنائية والتي لابد منها شعرياً لكن دون إسراف. نرى إن  كتابة الشعر لا تولد من الرغبات والتمنيات أو حتى تلك الطموحات ، فجوهر الشعر يتولد من التجربة العميقة ومن حرارة الروح وحدسها ويأسها ومن ثقافة متجددة غنية ، فـالشعر لا يصح أن يكون مجرد جهد لغوي ، أو طبقات صورية متراكمة فوق طبقات فحسب، ما يجعله مجرد تجريد ولعب باللغة وبالكلمات، فلابد من طراوة ، دون ميوعة، تشع في القصيدة والكتابة عموماً ، لتؤثر في المتلقي وتخلق الهوى والافتتان والإدهاش ، ويعتمدها الشاعر أو الكاتب و الباحث وحتى المؤرخ بينه و القارئ على حد قول “روجيه غارودي” والذي بدوره يعيد هذا الأمر إلى “كارل ماركس” في ” ماركسية القرن العشرين”/ دار الآداب- بيروت. قصائد (جبار الوائلي) في “المروءات..” مواد أولية بعضها يعاني من التباسات عدة في التصور والمنحى والقدرة على التوصيل، لكن القليل منها تنهل من الواقع العراقي المعيش ومصادفاته الغريبة والقاسية ، و تشكل انعكاساً  لجحيم وفجيعة الحياة العراقية الراهنة ، وتجهد لأن تجسد أشكال المعاناة فيها، و تسعى في أن تسجل شهادتها ،على وفق تصوراته، عن قحط هذا الزمن العراقي بعنفه ومراراته والتباساته.
* اتحاد الأدباء والكتاب العراقيين/ البصرة- 2013.