18 ديسمبر، 2024 9:13 م

مرثية لعيفان سعدون العيساوي

مرثية لعيفان سعدون العيساوي

أغتيل النائب عيفان سعدون  العيساوي في الفلوجة  يوم الثلاثاء الماضي . تقدم شخص متنكر بزي عامل بلدية نحوه  .  عبر الرصيف . احتضنه بقوة و صرخ بوجهه : (الله اكبر )  , وتشضيا معا . تطايرت اشلاءهما في الهواء  مع  حفنة  من الحراس المرافقين للنائب .
 
لا أحد أشتبه  في هوية القاتل .: تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين او ما يسمى دولة العراق الاسلامية . العلم الأسود الموشح ب(لا أله الا الله )  والوجوه الملثمة .

منذ سنوات وهم يعدون لهذه الوليمة . وقد بلغت  المحاولات الفاشلة الرقم 6 . الاعمال النوعية مثل هذه تشير بقوة الى ان عيفان هو هدف  ثمين يستحق ان يتشضى معه واحدا منهم  . القاعدة لا تستهدف الا من يوجعها فعلا. فأذا اعتبرنا ان تنظيم القاعدة هو العدو الاول  للتغيير في العراق ,  فاننا يمكن ان نضع مؤشرا دقيقا لقياس وزن  كل رجالات هذه المرحلة وتقدير اهميتهم وولائهم للعملية السياسية  . يمكن ان نقول ان  اهمية المسؤول في الدولة حاليا يمكن قياسها  بمقدار المحاولات الفاشلة لتنظيم القاعدة في اصطياده . وفي تقديري الشخصي ان اي مسؤول في الدولة لا تتعرض له القاعدة هو في حقيقته شخص هامشي وغير فاعل في العملية السياسية وربما كان في جوهره متواطئا مع تنظيم القاعدة او حليفا  لها .
واستطيع ان اقول دون تردد ان العدو رقم واحد لتنظيم القاعدة منذ عام 2006  وحتى  الثلاثاء الماضي  هما أثنين  : الاول هو عبد الستار ابو ريشة  والثاني هو عيفان سعدون العيساوي . 
اغتيل ابو ريشة في 13 ايلول 2007 بعد سبعة عشر محاولة فاشلة
اغتيل عيفان سعدون العيساوي في   14كانون الثاني 2013 بعد ستة محاولات فاشلة .
التناظر بين الاثنين في المسيرة الاسطورية  ووضوح الرؤيا  والخصائص الشخصية وطريقة الموت   يصل الى درجة التطابق . 

عيفان ايها الاسم المجهول لأصدقائه  والمعروف جدا لأعدائه . منذ سنوات وهم يعدون لهذه الوليمة  .ينتظرون موتك بفارغ الصبر . فأنت العقبة والشوكة التي تقف في حلوقهم وتمنعهم من التهامنا نحن  العزل من مستخدمي الطريق الممتد من بغداد الى حدود الاردن  .

أنت الصحوة يا عيفان . يا شيخ الطريق من بغداد الى طريبيل . يا شيخ البطولة والجرأة والفداء .
حين صحوت حملت معك مكنسة وشرعت تنظف الطريق من بغداد الى طريبيل . كنست القاعدة و اللصوص والملثمين . فتحته لنا جميعا . وقلت تعالوا : ادخلو ا الانبار بسلام .

عيفان ايها النائب المغدور :حين ارثيك , ارثي كل شبر  أمنته في هذا الطريق , كل برج للضغط العالي حميته . كل انبوب نفط . كل شاحنة وباص للسفر .
كل مسافر بقي على قيد الحياة .
حين يكون لكل هذا قيمة. سوف تكون لك جنازة أخرى . سوف نحملك على اكتافنا من جديد . ونطوف بك على كل شبر من آثار عظمتك . نسير بجنازتك من بغداد الى طريبيل .

  كان من الممكن ان تكون قاطع طريق . او عضوا في جيش  ارهابي يتخذ من النبي اسما  له . كان من الممكن ان تنساق وراء عقل جمعي متخشب . كان من الممكن ان تكون جزءا من محيط  لم يعد ممكنا فيه تمييز الحق عن الباطل . كان من الممكن ان تكون اي شئ يا عيفان . ان تكون عاديا جدا  وتمر على الحياة مثل غيرك دون ان  تترك أثرا  . غير ان شئ فيك يا عيفان ,  شئ  محير لا نملكه نحن هو الذي  احتلك وغير مجرى حياتك  كليا . منذ تلك اللحظة  لم تعد عيفان العادي  . وبينما سار الآخرون  في  درب  السلامة المر والمذل  فضلت انت درب المستحيل  .  
 اخترت ان تقهر الشر بأقصى تجلياته . اخترت ان تذهب الى اقرب نقطة من هذا الشر . تقترب منه لحد التماس . وتشتبك معه وتغوص في تفاصيله وتخرجه من اوكاره . وتهزمه وتذيقه المرارة . وبينما كان عدوك ملثما يحيطه الظلام من كل جانب اخترت ان تواجهه مكشوف الوجه عاري الصدر تحمل معك مشعلا ليضيئك

. تقول ها انذا . اخرجوا الي .
من أنت يا عيفان  ,   ولماذا جئت مبكرا  هكذا . ؟

 كان الفرق بينك وبين اعدائك مثل الفرق بين الغدر والسمو..وبينما  كنت تتحرك لتلاقيهم   في  النور يا عيفان , كانوا يتحركون اليك  في  الظلام ويعدون لوليمة خسيسة . ما اخزاهم يا عيفان .
انت الصحوة يا عيفان . صحوة العقل من الوهم . صحوة العقل من تلك الثوابت المرة .
في حربك ضد قطاع الطريق الجدد والملثمين  كنت  بحاجة الى السلاح . كان هناك سدا يفصلك عن طلب العون من المحرر( لا اسميه المحتل حتى لو بقيت  لوحدي ) . كان هناك سدا من الرعاع والجاموس الوطني والزبل القومي المتراكم منذ قرون . رفسته بقدميك الجبارتين . وذهبت اليهم .  قلت لهم :

 اعطوني سلاحا  , اعطيكم طريقا آمنا.

 هكذا بدأت قصة صحوتك .
 
لقد كان وضع هذا الطريق منذ تأسيس الدولة العراقية وحتى هذه اللحظة هو العلامة الدالة للعلاقة بين الحكومة وعشائر هذه المنطقة . ولأسباب عديدة لا مجال لذكرها هنا  فقد تحول هذا الطريق الى واحدا من مصادر الرزق . وانقسم سكان المنطقة طوال هذه العقود اما حماة او قطاع لهذا الطريق .
وللعلم  فأن كلمة قاطع طريق في هذه المنطقة لا تحمل مدلولا سلبيا او منافيا للأعراف .
ولكي نضع عيفان في موضعه الصحيح ونستطيع تقييم العمل الذي قام به في الانبار علينا  ان نعرف هوية قاطع الطريق  الجديد . 
من هو قاطع الطريق وماهي مطاليبه ؟

تنظيم القاعدة هو الشر نفسه . وهو عدو الحضارة رقم واحد . وبسبب استحالة تطبيق معتقداته فقد وصل الى نقطة اللاعودة  او اليأس .فأما ان يتلاشى او يواصل طريقه في تدمير الحياة . لايمكن مقارنة القاعدة لا بالنازية ولا بالبعث . قد تكون النازية موجهة ضد اليهود والبعث لأقامة الدكتاتوريات  لكنه القاعدة موجهة ضد كل ماهو حي . انها الفناء واول وآخر  عدو للقاعدة هو الانسان . ولو تعاملنا نظريا مع هذا التنظيم فان هناك مالا يزيد عن عشرين  الف انسان يستحقون الحياة فقط  أما باقي سكان كوكب الارض  ( اي المليارات الستة)  فينبغي ذبحهم كما تذبح النعاج  . ولو امتلك التنظيم الادوات الكافية لتحقيق هذا الهدف لما تردد لحظة واحدة .

احتل تنظيم القاعدة الطريق منذ الايام الاولى للتغيير في العراق . كانت الاداة هي  سلسلة  من الاعمال الشنيعة تتجاوز كل الاعراف : ذبح وتمثيل بالجثث و استباحة دون حدود. الرسالة كانت واضحة : نحن اسياد الطريق ,  نحن النوع الجديد من قطاع الطرق . توالت عمليات الذبح حتى  وصلت الى ذبح فريق رياضي للناشئين  عائد توا من مسابقة دولية في الاردن .  بدا واضحا ان الطريق لم يعد له وجود . وكان على من يود ان يعبر الطريق ان يضع في اعتباره كل الاحتمالات المروعة  وعلى راسها منظر الرؤوس المتدلية  والمقطوعة  المرمية على قارعة الطريق .
قاطع الطريق الجديد .ليس له هدف محدد . ليس هدفه سلب مال الضحية او ملابسه او ذهبه بل سلب روحه: لا بالطريقة العادية والمملة مثل اطلاق الرصاص بل بقطع الرؤوس وسحلها ورميها على قارعة الطريق . ليس الهدف قطع الطريق لوحده بل كل ما يرافقه . قاطع الطريق الجديد يقتل كل شئ  : اعمدة الكهرباء والهاتف والشاحنات وانابيب النفط والماء والغاز والمسافرين ودواب الارض  , قاطع طريق من طراز جديد يتجاوز كل المسميات ولا يقبل اي نوع من المساومة والفاوض . تتجاوز اهدافه الطريق والناس وكل ما يدبي ويتحرك .  .
 هذا هو قاطع الطريق الذي كان على عيفان وابو ريشة  مواجهته .

حين كتبت عنك وضعت في بالي ان اكتب عن العدو الذي هزمته . ان اكتب عن تنظيم القاعدة . سألت نفسي سؤالا بسيطا :
 كم تبلغ المسافة بيني وبين تنظيم القاعدة ؟

 اذا ارادوا النظر الي بجدية . ماهو تسلسلي في هذه المواجهة ؟ او بعبارة اخرى متى يحين موتي وتطاير . فقبلي تأتي كل المنظمات الاستخبارية الدولية والجيوش المعدة لمكافحة الارهاب  وقائمة السياسيين والميلشيات المضادة وموظفي الدولة  ورجال الصحافة الحرة والبنوك والمؤسسات العالمية ومراكز البحوث   وووووووووووووووووووووو الى ان نصل  الى  الاقلام  المتطوعة ( أعد نفسي واحدا منهم ) لمحاربة تنظيم القاعدة  .
 ماهو تسلسلي في هذه القائمة الطويلة التي تعد  بالملايين ؟
ماهو رقم تسلسلي في قائمة اعداء تنظيم القاعدة ؟
. اذا كان تسلسلي هو  :     6 7523 59      فماهو تسلسل  عيفان سعدون العيساوي ؟
وضعني السؤال نفسه امام عيفان : اين يقف عيفان ؟
كيف استطاع ان ينام طوال هذه السنين وهو العدو رقم واحد   ؟.
ليس الامر يتعلق بمدينة صغيرة او حي  . او نهر اسمه الفرات  او طريق يمتد  ل  600 كيلومترا بل ارض  تقارب نصف مساحة البلاد   مفتوحة على حدود تمتد لآلاف الكيلومترات وبلا حماية تذكر . 
حجم الخسائر والاضرار والحطام وعدد الشاحنات المارة يوميا و الاعمال المعطلة وارقام الضحايا مع ما يرافقها من الامال المحطمة  واليتم المتراكم .  كل هذه الارقام تدخل في مرثية عيفان
 
سوف يولي هذا الزمن الرجراج  وسيأتي زمن آخر تتبدل  فيه الثوابت القومية والوطنية المتهرئة والمضرة  والخالية من المنطق  . سوف تزاح الشعارات الغوغائية  وكل الزبل الوطني الذي يخنق عقولنا منذ قرون . سوف نرى الافعال بمنطق جديد . منطق الحضارة والمدنية والارقام . عندئذ سوف نرى عيفان وابو ريشة من جديد .
سوف يأتي زمان آخر على العراق  . زمان يغدو فيه الطريق الدولي والارصفة والاسواق المفتوحة وابراج الضغط العالي التي ابقيتها قائمة  هي مركز الوجود . عندئذ سوف تلتفت البلاد اليك .
.. كيف يخرج البطل ليواجه  مخالب الموت المحقق ؟  لازالت الفكرة غامضة .
تثبت لنا وقفتك ان فكرة البطل لا زالت ضرورية وفاعلة . تشبه افعالك تلك الحكايات الاسطورية التي تحكيها الجدات للأحفاد
. .. ايها القديس المؤجل  هاهم  يفتتوا جسدك  ليمنحوك فرصة   للخلود .  فتتوك    لكنهم لم يعلموا   انهم  حين    فتتوا    جسدك  ,تفتت معه  الوهم الطائفي الى الأبد  .  انهم لا يعلمون يا عيفان  ان اشلاؤك  المتطايرة في الهواء سوف  توحدنا  ولو بعد حين  .