23 ديسمبر، 2024 12:13 م

مرثية على نغم الصبا

مرثية على نغم الصبا

(الى روح الصديق مصطفى گلاز)
هو رسم من الكلمات أو لحن على الماء أو هو من الإثنين معاً، هكذا وصفه أحدهم. وآخر رآه نغما شرقيا أصيلا، يصول ويجول بين أوتار العود عند وقت اﻷصيل أو ساعة السحر. أمّا أنا فبيني وبينه ورغم بعد المسافات التي تفصلنا وصل من الحنين والمحبة، وحبل سري، لم ينقطع وصله أو تشوبه إحدى نوائب الدهر وطوارئه. وإذا أردتم المزيد من الوصف فنقول: إن كان حاضرا معنا فهو أول مَنْ سنلتفت اليه بل هو سيد ديوان جلساتنا وصدره، وإن غاب فهو مُقَدَّمٌ في الإستذكار من غيره. َتألفهُ حَرِكاً، يدندن في أذن هذا وَيُسمعُ ذاك بآخر اﻷلحان وأعذبها. وعن مكانه من الجسد فهو ملامس لشغاف القلب أو أي مكان يشاء. ورغم تعذر اللقاء به طوال ثلاثة عقود من الزمن الاّ انه وجوده بين ظهرانينا كان كما الطيف، يدور ما بيننا.
ما من حديث يدور بين إثنين من أحبته الاّ ويكون معطرا بذكره وبدعاباته التي لا تتوقف. ولا من حدث إستحضرناه في لحظة من الخمر، الاّ ويكون( أبو التوف) أحد أطرافه وهو حاملا كأسه عبر أثير من الحب وسلطنة على مقام الصبا القريب الى قلبه ولنا، بل هو دورة اسطوانة لا تتوقف عن عشق الموسيقى. رغم رهافته، فالتناسق لم يكن مرهقاً بالنسبة له، حيث آلَفَ وبقدرة فائقة وبرشاقة العارف، بين علاقته بشتراوس وسيمفونية بيتهوفن التاسعة من جهة، وبين أغاني أهلنا في الفرات اﻷوسط والغربية وصوت سعدي الحديثي، وهو يغني واحدة من أجمل قصائد الشاعر الفذ مظفر النواب من جهة أخرى.
رحيل صديقنا اﻷعز مصطفى گلاز، دفعني الى إعادة قراءة بعض من فصول التأريخ الذي أمسى بعيدا، مستذكرا ما كاد يُنسى، خاصة تلك الصفحات التي جمعتني به وبأخوة مشتركين، كانت اﻷرض قد شتَّتتهم على بقاع أطرافها بعدما ضاق بهم تراب وطنهم وضاقت بهم سلطة تكره اﻷغاني وأحاديث الطرب والسلطنة. فعن أي ذكرى أحدّثك يا مصطفى؟ أتتذكر تلك اﻷيام، حين كنّا نجدف سوية وفي مركب واحد وعلى إيقاع منسجم متناغم، محصنين بالبراءة وطيب النوايا، هادفين بلوغ الطرف الثاني من النهر، حالمين بمرفأ آمن حيث الراحة والسكينة، ويوم وقفنا وعلى قلة حيلتنا وطراوة تجربتنا وعودنا، بوجه تلك النذالات التي أرادت أن تسحق الزهرة.
ربما إبتعدت قليلا عمّا رمتُ الخوض فيه ولكن للإستدراك بعض نصيب أيضا، وحضوره بين ثنايا النص قد يمهِّد الى ويُحسِّنُ من شروط الوصول الى ما نبتغيه، وبأدوات أحسبها ضرورية ولا مندوحة منها. أمّا عن فاتحة الكلام فخيره هو حلوه: فمصطفى، الحاضر الغائب بل قُل الحاضر القوي رغم غيابه، كان موضع غبطتنا وبهجتنا في آن، كانت عيوننا ترنو اليه بغير حسد، ولذلك أسبابه، إذ لم يكن طيب الذكر والثرى على شبه بغيره من بين تلك الباقة العطرة التي باعدتها الغربة، فهو عمودها وغصنها الذهبي، جمع بين يديه ما عجزنا عنه وما لم نستطع اللحاق به، وكم من مرة أردنا السير على خطاه، غير انّا لم نبلغ ربع المسافة التي قطعها والتي أوصلته ليتربع على عرش من الطهر والتسامي ومن دون منازع. وإذا أردتم من الصفات أكثر، فقليل عليه القول: انه اﻷنيس والجليس وما هو أسمى، وهو النديم كذلك، لذا سمّى ولده البكر نديما وأراده أن يشبَّ ويثبَ على سرِّه. تُرى هل سيحمل وليده من بعده آلة العود أو الكمان ليعزف هو اﻵخر ويصدح صوته للسلام والحرية؟.
ما فات ذكره من تعريف بشخصه قد لا يفي بالغرض أو قد يبدو ناقص الدلالة، أو لا يشير لإسمه على نحو واضح ومنصف، لذا إرتأى أصدقائه ووفاءا له وعرفانا بجميله وجمال حضوره، ولمن لا يعرفه أو لم يعاصره، إرتأوا أن يدونوا في مفكرة مدينتهم بضع كلمات جاءت على النحو التالي: هو أحد أغصان شجرة سامقة، يانعة الإخضرار، تطلُّ على نهر مدينته، بل هو أكثر نضارة وبهاءا من بين ذلك الجيل الفتي الذي دخل عالم السبعينات واختط له طريقا، يدرك مدى وعورته ومآلاته ومذ وضع خطواته اﻷولى، لكنه أقسمَ على تكملة المشوار.
في سبعينات القرن المنصرم، أصغى مصطفى لصوت ماريام ماكيبا يوم غنَّت للجزائر الثورة أغنيتها اﻷثيرة والخالدة (أنا حرة)، ليرقص على أنغامها أحرار العالم وفي مقدمتهم نيلسون مانديلا. وأصغى كذلك وبكل جوارحه للجزائر الدولة التي فتحت لتلك الثائرة اﻷفريقية أبوابها بعدما أسقطت عنها دولة التمييز العنصري (اﻷبارتايد) في جنوب أفريقيا الجنسية عنها، لتمنحها حق الإقامة والتمتع بجواز سفر كامل الصلاحية، مطرز بأحرف من نور وبهجة، لتجوب به أركان العالم الحر بمحض إرادتها ومتى شائت، مُعرِّيةِ تلك النظم السافلة والمنحطة.
وفي تلك السبعينيات أيضا سمع مصطفى ومن مكان آخر من العالم بأن سلفادور الليندي، الإشتراكي الإنتماء والولاء واﻷمل، والرئيس الشرعي المنتخب لدولة تشيلي، قد جرى إعتقاله وتصفيته، وان هناك شخصا اسمه فكتور جارا، الأستاذ الجامعي والمخرج المسرحي وكاتب اﻷغاني الثورية، قد إخترقت جسده ونخرته سلطة الإنقلاب العسكرية الفاشية، بأربعة وأربعين طلقة، إنتقاما لولاءه للثورة ولشعبها وﻷغانيه الشهيرة المحرضة والتي كان مدارها حقوق أبناء جلدته.
وليس بعيدا عما يحيط به، فقد سمع بأحمد قعبور وهو يغني لفلسطينه: شمس المشرق بتدفي، شمس المغرب ولعاني، وأنا ما بعرف من الشمس الاّ شمس اﻷغاني، ولا بعرف شمس فلسطين ولا شروق الشمس بيافا. وكان لمارسيل خليفة نصيبا ملفتا في إهتمامات مصطفى، ولعل أغنيته الشهيرة التي راجت وانتشرت وبشكل ملحوظ بين ساحات وأزقة الدرابين العربية الفقيرة، انها أغنية منتصب القامة أمشي. وراح مكررا مصطفى الإستماع عليها حتى حفظها عن ظهر قلب وبسرعة قياسية: منتصب القامة أمشي، مرفوع الراية أمشي، في كفي قصفة زيتون وعلى كتفي نعشي، قلبي قلبي أحمر، قلبي بستان، فيه فيه العوسج، فيه الريحان، شفتاي سماء تمطر نارا حينا حبا أحيان.
ولعل من أكثر اﻷغاني الوطنية التي أثَّرت وشكلَّت ذائقة مصطفى الفنية، هي أغاني الشيخ إمام وشاعرها الكبير أحمد فؤاد نجم. فبين بين فترة وأخرى وكلما إلتقينا على مائدة من الخمر والحماسة، كان يتحفنا بترديد بعضها. ومما يستحضرني منها: أبوك السقا مات والخواجه اﻷمريكاني واﻷوله آه وغيرها. غير انه كان يركز بشكل خاص وعلى قاعدة ختامها مسك، على ما يعتبرها من أهم اﻷغاني والقريبة الى قلبه الا وهي البقرة حلوب، وكنا حينها نرددها معه بحرفة وإنسجام تام ومتعة.
إعتاد وفي كل زيارة كان يقوم بها الى عاصمته الحبيبة بغداد، أن يمر على كنيسة مار يوسف وفي منتصف النهار تحديدا، ليصغي الى ضرب النواقيس، وهي تعزف لحنا من السكينة والراحة وللمسيح المخلص، هنا سيقول في سره: من هنا تبدأ الوحدة واللحمة الوطنية، فهم أصحاب حلٍّ وعقد كما أخوتهم في الحديقة الكبيرة المسماة أرض النهرين. إذن جُبِلَ مصطفى على ذلك الإرث الوطني والموسيقي، وعلى تراكم نوعي متنوع، فقد جمع بين جناحيه وبين جهتي القلب مختلف المشارب والمدارس، والتي كان قاسمها المشترك واﻷحلى واﻷجمل هو ذلك الإصغاء الى صوت الإنسانية المعذبة، وهي تصحو وتنام على جراح صعبة الإلتئام إن لم تكن مستحيلة. كل هذا لم يذهب سدى بل ظلَّ راسخا في ذاكرته، حافظاً له وبه سيستعين عند إقتضاء الحال، وهذا ما إنعكس فعلا وبدا جليا في أعماله، فقد لَحَّنَ وغنَّى وكتب أجمل الكلمات.
في آخر اتصال هاتفي بيننا، والذي جرى قبل قرابة الشهر من رحيله، راح مصطفى يسرد لي حلمه: لعلها الوحيدة المطلة على نهر خريسان، انها شجرة الزيتون، لقد كبرت على نحو ملفت. هذا ما قاله مَنْ كان يرافقني حلمي، ثم أردف ذات الشخص متسائلا، بماذا سقيتموها؟ أجبته: سقيناها بخمر ومحبة وصبر سنين، وما يفيض منها كنّا نعبئه بدن من الجلد ونمضي به خلسة مساء كل خميس بعد إنكسار الضوء وَبِدأ تواري الشمس خلف سدير من النخيل، فاسحة في المجال لقمر سيأتي بعد حين، متخذين من درب البساتين وجهة، ومن الغروب العذب ستارا ومن ريحها الطيبة نشوة ،حتى يجن الليل ويبلغ أشده، وسيغدو حينذاك أليفا كعادته كي يشاركنا السهر والسمر. ومن قبل ذلك سنطرق الباب على سيد المكان أو قُلْ صاحب الحانة كما يروق له من تسمية، ليطل علينا بوجهه الضاحك صديقناسعد إبن حبيب. وإن غاب أو تعذر حضوره فسنلاقي رباح إبن حسن وعن أي رباح أحدثك، وبحضورهما أو بأحدهما سيكتمل العقد وتحل البهجة.
بعد أن أنهى سرد حلمه، قلت له ما الذي ذكَّركَ بصديقينا سعد ورباح بعد رحيلهما ومنذ ما يزيد على السنوات العشرة؟ فقال هم أحبتي وأنا في شوق لهم. ثم غلق سماعة الهاتف على مضض بعدما طالني نصيب من نحيبه. وعود على بدأ، فلم تمضِ على تلك المكالمة كما سبق القول سوى شهر واحد وحسب الاّ ويأتينا الخبر الصدمة: لقد رحل مصطفى، تاركا ورائه باقات من الورود واﻷغاني والقبلات، لينثرها على مَنْ تبقى من أصدقائه. أمّا عن وصيته فقد جاءت مبتسرة وبعبارة واحدة: إرفعوا نخبي عاليا وفي أول لقاءسيجمعكم، ولا تنسوا أن ترددوا ما قاله الشاعر الصوفي إبن الفارض:
شَربنا عَلى ذكر الحبيبِ مُدامةً سكرنا بها، من قبل أن يُخلق الكَرمُ.