21 أبريل، 2024 4:39 م
Search
Close this search box.

 مرثية الفقد والنفي

Facebook
Twitter
LinkedIn

قراءة نقدية في رواية عزلة أورستا – للكاتب – حمزة الحسن
نصف قرن من الزمان ، مليء بالحركات السياسية والصراعات الحزبية ، والهتافات والشعارات ، والأنقلابات والأنتكاسات ، والقتل والتدمير لمقومات البناء المدني للدولة

والأنسان العراقي .

تم تدجينها في رواية حمزة الحسن (( عزلة أورستا )) . بلغة تفيض بالتوصيفات والتشبيهات التي توحي بأمكانية عالية في رسم الشخوص والأحداث ومنحها دفق الوجود المكاني والزماني وبما يخدم الوصول الى غاية الكاتب ومقاصده .

فعلى حافة المدن القصية ، تحت ركام الثلج الهائل والعزلة الفائقة في بلاد اسكندنافية (( على خليج أورستا )) كانت هذه الرواية ، التي توزعت بين أحداث قديمة موغلة في الذاكرة حيث غبار الصحاري والمدن العراقية وساحات الحروب والتاريخ البغدادي الممتد لأكثر من نصف قرن ، وبين أحداث حاضرة حيث جبال الثلج والمطر والمنفى التي تشكل حاضر الشخصية الرئيسية في الرواية .هذه الشخصية التي خرجت من أرض الخراب الى مواطن النفي هربا من (( الموت السهل ومصادرة الجسد للحروب والسجن والهروب المتكرر والبحث عن الضوء والدفء والشهوات المؤجلة – ص14 )) . والتي نالها الخراب وذاقت التسلط والهمجية وحروب الأمجاد الزائفة ومايتبعها من تعقب وسجن ومطاردة واذلال ، فأختارت منافي الثلج والعزلة والوحدة و(( الموت الأختياري )) بعد سلسلة من الهروب عبر الحدود والهجرة غير الشرعية بين المنافي والقارات ، حتى يصبح المنفى ليس مجرد وجود مكاني وانما يتلبس بكل معاني وذات وادراك وشعور الأنسان .

فذلك الطفل الذي : (( يركض في براري الصيف المحترقة – كما لو انه وجد مزروعا مع نباتات الشوك والعوسج والصبار – ص116 )) في أرض العراق التي كانت : (( وطنا للعشق والشعر والحكايات والخصب ومواسم المطر والحب والعشب ص97 )) .

ذلك الطفل الذي نشأ على هذه الأرض التي وطئتها أقدام الجلاد وداست عليها السلطة والتسلط بكل أنواعها وبكل جبروتها وهمجيتها وأمجادها الزائفة ، وادخلتها في صراعات الأحزاب والتيارات السياسية التي تشكلت عليها بكل تناحرها وتناقضها ، واستئناف التسقيط والأقصاء والقتل والسحل منذ بدايات ثورة رشيد عالي وبداية جريان نزيف الدم العراقي منذ 1958 وماتلاها من سلسلة انقلابات أدت الى تسلط زمرهمجية مزيفة قادت الناس عنوة الى سلسلة متتابعة من الحروب والخراب المتعمد بحثا عن أمجاد فردية زائفة ، كان من نتيجتها انسان عراقي مشوه ، ومناضل مشوه ، وفساد وتعفن وتفسخ ، وجلاد ودكتاتور يتجسد في كل التفاصيل الحياتية الصغيرة والكبيرة للعراقيين ، وقادت الناس نحو الأقصاء والمطاردة والسجن والموت المجاني ، وسلسلة حروب لامبرر لها على جبهات متفرقة ساهمت بتحطيم الأنسان

العراقي وطحنه : (( في جريدة استدعيت للعمل بأوامر عسكرية وطردت منها بأوامر عسكرية – ص118 )) .

فأصبحت المنافي هي الغاية لكثير من العراقيين ، وهي الطريق الى حياة ما تتشكل بعيدا عن هذا الحريق المستعر والتحطيم المتواصل . وتحولت بغداد ، التاريخ والحضارة والأدباء والشعراء ، والخير ، والمقاهي والنوادي ، والمناضلين ، تحولت الى معتقل كبير ومنفى

داخلي .

لقد وردت في الرواية الكثير من الأشارات الى الوقائع التأريخية والى الصورة الحضارية لبغداد قبل ان تحرقها هذه الأحداث الممتدة الى اكثر من نصف قرن من الزمان – فقد أشار الكاتب الى حركة رشيد عالي ، والمفوضية الألمانية ، ويهود العراق الذين كانوا عراقيين ابتلعتهم المنافي اسوة بالعراقيين ، واحداث الغوغاء التي حصلت مع هذه الحركة ، وسفك دماء اليهود في العراق الذي كان للمفوضية الألمانية الدور الأكبر فيه وتم رميها على عاتق المسلمين العراقيين . وتمت الأشارة الى مقاهي بغداد – ملتقيات الأدباء والشعراء – نوادي بغداد – دور السينما – نصب جواد سليم – ساحة الأمة وتمثال الأم – نصب جواد سليم – جدارية فائق حسن – وشخوص ، مثل الجواهري والسياب وعبد الأمير الحصيري – وغيرهم ، كشواهد ورموز للذات العراقية التي تعرضت الى الخراب ، فنصب جواد سليم تحول الى مجرد حجارة ، والمقاهي افرغت من محتواها ولقاءاتها الأدبية والفكرية ، ودور السينما وحديقة الأمة التي تحولت الى أماكن للرذيلة ، وجدارية فائق حسن التي تساقطت طيورها البيضاء ، والنفي والموت بما يشبه الانتحار لهذه الشخوص ، ككل صور الخراب العراقي الممتد من جبهات الحروب المتتالية من ايران والأكراد وغيرها . ودور المثقف الذي تم اقصاؤه أو لصق التهم الجاهزة له وتسقيطه لكي لايشكل (( حائط صد )) بوجه هذا الخراب .

ولاتكون المنافي خلاصا أبديا واستقرارا دائما ، لأن العزلة في وسط ذلك الثلج لاتوفر الا مزيدا من عذابات الأنسان المنفي المتتالية الذي يشعر برغبة البكاء لرائحة عباءة الأمومة ، وكم العذابات التي تظهرهنا وهناك .

وتسرق المنافي في ظل حظوة المال والسلطة ، حيث يتسلل أزلام الفجيعة وصانعيها الى خارج العراق بأمتيازاتهم العالية ، ولاتكفيهم (( أمجادهم )) في العراق ، بل زاحموا العباد في احلامها البعيدة وسرقوا حتى منافيها .

لقد كان حمزة الحسن موفقا في استرساله بقدر كبير ، وتمكن من تهيئة سلسلة من الأحداث والشهادات والأيماءات والأشارات والشخوص سواء كانوا حقيقيين او شخوص متخيلة عبر مساحات من الزمن والأراضي الممتدة من الصويرة الى أقاصي شمال العراق والى ساحات الحروب العراقية والى داخل ايران وباكستان والمنافي الأسكندنافية .

ووظف الحوارات والمنلوجات لغرض رسم صورة واحداث روائية ، وتمكن من قيادتها الى الغرض الذي يضعنا وسط ذلك الكم الهائل من الخراب والدمار والعفن طيلة نصف قرن من الزمان – شخوص ضحايا عبر عليهم الزمن مهمشين ومنسيين – شخوص منفيين – شخوص وضحايا كان موتهم ادانة كبيرة للتركيبة الأجتماعية والأخلاقية المشوهة لمجتمعنا .

وقد أجاد حمزة الحسن بمفردته العذبة العميقة الموحية التي قادنا بها الى جو من السرد السلس والرائع ووضعنا في منتصف الخراب والفجيعة المرسومة هنا ، رغم اسهاب الكاتب في بعض الحوارات وفي سرد بعض المذكرات التي (( تشطح )) بنا الى شبه التقريرية في بعض

المواضع ، والى تداخل السرد والروي الذي يدخل من باب تؤدي الى أبواب ثانوية واحيانا جانبية تفقدنا الأمساك بالتفاصيل الرئيسية .

وعزلة أورستا وثيقة لعذاب عراقي ممتد لمدة أكثر من نصف قرن . واذا كان تناول موضوع النفي والسجن ليس جديدا لدينا (( شرق المتوسط – عبد الرحمن منيف )) مثلا ، فأن حمزة الحسن تناوله في هذه الرواية من زاوية أكثر شمولا ، وأعمق ، وأكثر ملامسة لنا .

وبالنسبة لي ، فأن عزلة أورستا هي أفضل ماقرأت لحد الآن في هذا الموضوع ، فقد لامست الثلج والمطر وغبار الصحراء ، وتم اقتيادي لعبور الحدود والى السجون وقصص الغرام وحشرجات الصدور، في رواية حمزه الحسن ، بفيض حكيها ، ولغتها التي تنثال كالثلج

والغبار .
E-MAIL: [email protected]

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب