لماذا توحلت الأجيال في إرادتها , وإختنقت بتطلعاتها , وإندحرت في أهدافها , وقتلوها بما تريد , وأجهضوا أحلامها , وإنطمرت في مساعيها , فانقلب كل شيئ عليها , فاندفنت في ويلاتها وتداعياتها المتواصلة البلاء.
قد نجتهد بأجوبة متنوعة ورؤى متعددة , لكن الجوهر الحقيقي والفعال أن الأجيال وكأنها في سيارة زجاجتها الأمامية عبارة عن لوح خشبي أو حديدي لا ترى خلاله ما هو أمامها , فتستعين بالمرايا الخفية والجانبية في سيرها.
نعم إن الأجيال مضت على أنها لا ترى أمامها , وتتعلق عيونها في المرايا التي تعكس لها ما هو خلفها , فتتوهم أنها تسير وهي تتحرك إلى الخلف بسرعة تتوافق وقدراتها على قيادة السيارة تراجعيا , حتى صارت هذه الحركة الإنحدارية توهم بالحركة إلى الأمام.
ولا تزال الأجيال تعارض أية محاولة لتحطيم اللوح الأمامي أو إحداث ثقب فيه لكي ترى ما هو أمامها , أو ليتضح الطريق الذي عليها أن تسلكه لتكون , مما يعني أن الأجيال في محنة مصيرية قاهرة , فلا يمكنها أن تسير كغيرها لأنها لا ترى ما أمامها , وأنظارها متعلقة بما وراءها , حتى إضطربت حواسها وقدراتها على التقدير والتبصر , فبدت وكأنها تتخبط في مصيرها المجهول , وتنجذب إلى ما ورائها من الحالات.
وهذا يفسر إنشغال الأجيال بتعاقبها بما مضى وما إنقضى , لأنها تبدو وكأنها لا ترى سوى الذي يتراكم وراءها , ويتعاظم في مأساويته وعدوانيته على حاضرها ومستقبلها , وإن شئت فالأجيال معصوبة العيون منحرفة البصائر , متدحرجة بلا خطوات بل تعصف في كيانها الهفوات.
إن الإنغماس بالورائية يترتب عليه برمجة تراجعية وإندحارية للوعي والتصور الجمعي , مما يوفر بيئة موائمة للحركات الرجعية الأصولية المنغمسة في الغابرات والممعنة بالداميات , التي تسوغها بما إحتوته كتب الأولين من رؤى محكومة بمعارف محدودة بمكانها وزمانها.
وعلى هذا فأن الأجيال قد أضلت سبيلها وراحت تسير إلى الوراء وتحسب أنها تمشي في دروب الحياة , وفي واقعها أنها تهرب من الحياة وتعيش في باليات العصور , مما حتم عليها التعبير عن ذلك بما تحتشد به أيامها وترسمه في عالم يدور , وهي تحسب أنها لا تدور أو تدور عكس إتجاه عقارب الساعة.
فهل سنتمكن من الإعتماد على عيوننا وبصائرنا المعاصرة؟!!