( الحلقة الثانية عشرة )
يقولُ أدونيس إنَّ الشعرَ ليس مجردَ تعبيرٍ عَنْ الانفعالاتِ وَحدها، إنَّمَا هو رؤية متكاملة للإنسانِ وَالعَالم وَالأشياء، وَكُلِّ شاعرٍ كبير هو مفكرٌ كبير. وَلا أخفي سراً أَنَّ تمعّني فِي الرؤيةِ المذكورةِ آنفاً، كان مِنْ بَيْنِ أهمِ الأسباب المَوْضُوعِيَّة الَّتِي حفزتني للخوضِ فِي غمارٍ – مَا أتيح لي – مِنْ تجربةِ الشاعر الكبير يحيى السماوي بأبعادِها الإنسانيَّة، بعد أنْ تيقنتُ مِنْ سموِ منجزه الشعري المغمس بثراءٍ فكري وَحس وَطني وَوَعى عقلاني يعبرُ عَنْ إيمانٍ بسلامةِ الخطى وَوضوح الرؤية، فلا غرابةَ فِي أنْ يكونَ للإنسانِ وَالحبِ والجمالِ حضورٌ وجدانيٌّ فِي مَا تباينَ مِنْ أجناسِ نصوصِه الشعريةِ الرشيقةِ الأنيقة، والمؤطرةِ بذوقٍ عالٍ وحسٍ مرهف، بالإضافةِ إلى توشيمِ بعض فضاءات نصوصه الشعرية بمفرداتٍ منتخبةٍ بعنايةٍ وَدرايةٍ مِنْ مَوْرُوثنا الثَّقَافِيّ والاجْتِمَاعِيّ؛ مُوظِفاً مَا تكتنزه ذاكرته المتقدة المتوهجة مِنْ صورٍ مَا بَيْنَ طياتها، وَالَّتِي ظلت ملتصقة بوجدانِه وَلَمْ تفارقه، فثمَّةَ مفردات مِن التراثِ الشَعْبِيِّ مَا يَزال لها صدى فِي بعضِ نتاجاته الشعريَّة.
لا يخامرنا شك فِي اهتمامِ المُجْتَمَعات الإنسانيَّة المتحضرة بفترةِ المراهقة فِي حياةِ أفرادها، بوصفِها المرحلة الَّتِي يصبح الفرد بعدها راشداً، ومؤهلاً للعبِ دور مؤثر فِي مُجْتَمَعه، مَا يؤكد حاجة المراهق إلى متسعٍ مِنِ الوقت مقروناً بجملةِ متطلبات؛ لأجلِ التوافق مَعَ عالمِ الراشدين قصد اكتساب مهاراتهم الَّتِي تؤهله للعملِ بسُّبُلٍ فعالة اجْتِمَاعِياً. وَفِي الوقتِ الَّذِي يشير فِيه البعض إلى تلك المرحلة باسْمِ ” أَزْمَة المراهقة “، فالمتوجب إدراكه أيضاً هو أنَّ مفهومَ ” المراهق ” المعتمد فِي الأدبياتِ الإنجليزية مشتق مِنْ أصله اللاتيني الَّذِي يعني التدرج نحو النضج، مَعَ العرضِ أَنَّ الأزمةَ لغةً تعني الانقباض وَالشدة وَالألم؛ لذا تعددت تعريفات جهابذة علمي النفس والاجتماع حَوْلَ اصطلاح مرحلة المراهقة، حيث أَنَّها بحسبِ الدكتور أحمد زكى صالح تبدأ بالبلوغِ وَتمتد حتى سن الرشد، بوصفِها المرحلة النمائية أو الطور الَّذِي يمر فِيه الفرد غير الناضج جسمياً وعقلياً وَاجْتِمَاعِياً – الَّذِي يطلق عَلَيه عادة اسْم الناشئ – نحو بدء النضج الجسماني وَالعقلي وَالاجْتِمَاعِيّ. وَفِي صَخَبِ الجدل الدائر مَا بَيْنَ المُتَخَصِّصين حَوْلَ تحديد مفهوم مرحلة المراهقة، يمكن الاستنتاج بأَنَّها فترةٌ مِنْ حياةِ كُلِّ فرد تبدأ بالطُفُولةِ وَتنتهى بابتداءِ مرحلة النضج أو الرشد، وَتتميزُ فِي بدايتِها بحدوثِ تغيراتٍ بيولوجية عند البنات وَالأولاد تصاحبها تغيراتٌ أخرى. وَقَد يكون زمن هذه المرحلة طويل المدى أو قصيرا ، بالإضافةِ إلَى أَنَّ مدتَها تختلف مِنْ أسرةٍ إلى أسرة، وَمِنْ مستوى اقْتِصادِيِّ اجْتِمَاعِيّ إلى مستوى اقْتِصادِيِّ اجْتِمَاعِيّ آخر، وَمِنْ حضارةٍ إلى حضارة أخرى، بل أَنَّ تلكَ المدة تتذبذب فِي المُجْتَمَعِ الواحد ذاته مِنْ وقتٍ إلى آخر بالإستنادِ إلى طبيعةِ الظروف الاقْتِصَادِيَة. وَالمذهلُ فِي الأمرِ أَنَّ بعضَ الدراسات تشيرُ إلى مرحلةِ المراهقة بوصفِها فترة مِنْ حياةِ الإنْسَان الَّتِي يزداد فِيها الصراع مَا بَيْنَ المراهق والمُجْتَمَع. وَيمكن القولَ إنَّ المراهقةَ تُعَدّ أحدى مراحل حياة الإنْسَان الطَبيعيَّة، مَا يعني عدم صِحة الطروحات الَّتِي تشير إليها بوصفِها أَزْمَة، كما أَنَّها ليست مرضاً مثلما ينظر إليها بعض الباحثين؛ إذ أَنَّ المراهقةَ تشكل فِي واقعِها المَوْضُوعِيّ مرحلة الإنسلاخ الطَبيعيّ مِن الطُفُولةِ إلى الرشد. وعَلَى الرغمِ مِنْ كونِها تشكل عصب الحياة، إلا أَنَّها تكون عادة مصحوبة ببعض الآلام الَّتِي تلزم الآباء بفهمِ نفسية الأبناء، إلى جانبِ فهم الأبناء لفكرِ الآباء مِنْ أجلِ مرور أيامها بسهولةٍ وَيسر وَمِنْ دُونِ أيِّ قلقٍ أو توتر أو شعور بالذنب؛ لأَنَّها تمثل فترة حرجة فِي حياةِ الإنْسَان تقتضي تكيفاً مِنْ نوعٍ جديد يختلف تماماً عَمَا كان الفرد قد تعود عليه فِي مرحلةِ الطُفُولة، حيث يرى أغلب علماء النفس أنَّ المراهقةَ تعنى العمر الَّذِي يندمج فِيه الفرد مَعَ عالمِ الكبار، والعمر الَّذِي لَمْ يُعَدّ فِيه الطُفل يشعر أَنَّه أقل مِمَنْ هم أكبر مِنه سناً، بل هو مساوٍ لهم فِي الحقوقِ عَلَى أقلِ تقدير.
صـغـير كالبرتقالة قلبي ..
لكنه
يسَـعُ العالمَ كله
***
لا تسـأليني مَنْ أنا
فإنني أجهلُ مَنْ أكونْ
كلّ الذي أعرفه عني
أنا مدينة الحكمةِ
لكنَّ الذي يدخلها
لابدّ أنْ يُصاب بالجنونْ
**
أملك من الوطن :
إسمه في جواز سفري المزوّر …
لستُ حُرّاً فأطلّ من الشرفات ..
ولا عبداً فأحطم قيودي ..
أنا العبد الحرّ
والحرّ العبد ..
محكوم بانتظار ” غودو ” جديد
لم تلده أمّه بعد!
***
أنتِ لستِ شمساً
وأنا لستُ زهرة دوّار الشمس ..
فلماذا لا يتجه قلبي
إلآ نحوك ؟!
المثيرُ للاهتمامِ أَنَّ إنتقالَ السَّماوي مِنْ مرحلةِ الدراسة الإبتدائية إلى المتوسطةِ شكل انعطافاً مهماً فِي حياتِه بفضلِ مَا ولّدته – المرحلة الجديدة – مِنْ معطياتٍ مواكبة لِمَا تفرضه عادةً مراحل الانتقال مِنْ تغيرات، فَمِنْ المؤكّـدِ أنَّ إيجابيةَ انعكاساتها كان لها الإثر الكبير فِي المُسَاهَمَةِ بانفتاحِه عَلَى الحياة الَّتِي ألزمته الجهد فِي السعيَّ لإرساءِ اللبنة الأساسية الأولى لمقوماتِ بيْئَة بنائه التعليمي والفكري، وَالَّتِي ترتب عَلَيها إثارة محركات وَعيه فِي ضرورةِ السيرِ باتجاه مَا مِنْ شأنِه إثارة موجبات تدفقِ البدايات الأولى لموهبته الشعرية، فضلاً عَنْ تحفيزه لتوسيعِ آفاقه المعرفية بالأحداثِ السياسية والتاريخية الَّتِي شكلت لاحقاً أحد أبرز ملامح تجربته الإبداعية المتميزة، وَالَّتِي عبر مِنْ خلالِ فضاءاتها عَمَا يجيش فِي نفسِه مِنْ خلجاتٍ وَمشاعر إنسانيَّة، وَمَا يجول فِي خلِده وَيدور فِي ذهنِه مِنْ أفكارٍ وَمعانٍ تتعلق بقضايا الإنْسَان وَمَا يكابده مِنْ تعنيفٍ وَإذلالٍ واستلاب، فلا غرابَةٌ مِنْ الهَدِيرِ الَّذِي تحدَثَه نصوصه فِي أعماقِ النفس البشرية وهو يبوح بحزنِ صادق – وسط مناخ محلي بالغ الاضطراب وَمفتوح عَلَى احتمالاتٍ أحلاها مُرّ – عَنْ همومِ شعبه، ومَا عاشته بلاده مِنْ تحدياتٍ قصد استباحتِها وَتفتيت نسيجها الاجْتِمَاعِيّ، وَلاسيَّما مَا ظهرَ فِي التاريخِ القريب مِنْ أساليبِ الإدارة غير المشروعة، وَلاسيَّما الاعتداء عَلَى حقوقِ الأكثرية الساحقة مِن المواطنين بفضلِ سياسة المحاصصة الَّتِي نجمت عَنْها ممارسات وَسلوكيات ضاعفت مِنْ معاناتِهم وزادتهم فقراً وَبؤساً وَجوعاً وَحرماناً، إلى جانبِ جرائمِ النهبِ واللصوصية الَّتِي أزكمت فضائحها حتى أنوف الموتى. يُضافُ إلى ذلك مَا عكر صفو مزاعم الدوائر الامبريالية وَالسائرين فِي فلكِ سياساتها مِنْ محيطِ العراق الإقليمي فِي ادعاءِ الإنسانيَّة وَالزعم برعايتِها حقوق الإنْسَان، وَحماية الأفراد وَحقوقهم الإنسانيَّة؛ إذ لَمْ تكتفِ بِمَا ارتكبته مِنْ جرائمٍ بحقِ وَطننا وَشعبنا وَتعمدها تبديد ثرواتنا قصد اِسْتِغلالها، وَلاسيَّما مَا ظهرَ مِن المحاولاتِ الخبيثة الرامية إلى تجريفِ تاريخ العراق الغني بالمآثر، وَالعمل عَلَى تخريب معالم حضارته وَقيمه العِلْميَّة وَالتاريخيَّة وَالتَرْبَوِيَّة، وَالتكالبِ عَلَى ينابيعِ ثقافته وَمنظومته القيمية مِن أجلِ تصديعها وَتفكيك مرتكزاتها قَصد تعريضها إلى الاضمحلال.
لا تُـطـفِــئـي الـنـيـرانَ فـانــتـظـري
حَـطَـبـي لــنــبــدَأ شـهــوةَ الــشــرَرِ
//
تــنُّــورُ وادي الــلــــــوزِ أيْــقــظَ بـي
عَـطَـشَ الـرمـــالِ لِـكـوثَـرِ الـمَــطَــرِ
//
وثَــقَ الــفــراتُ بــنـــــا فــأوْدَعَــنــا
سِــرَّ اخـضـرارِ الـعـشـبِ والـشّـجَـرِ
//
بَـصَـري عــفــيـفُ الإثـمِ فـاتَّـخـــذي
ثـوبـاً شَــفــيـفـاً مـن سَـنـى بَـصَـري
//
شَــفَـعَ الـهـوى لـيْ فـي هــواكِ وقـدْ
أسْـــلَــمْــتُــهُ قــلــبـــي عـلـى كِــبَــرِ
//
لا تـحــرمـي ثـغــري رحِــيــقَ فــمٍ
عـذبٍ وعَــيــنـي مــتـعَــةَ الــنـظَــرِ
//
أحـدو .. وقـافــلـــتــي هَــوادِجُــهــا
حُـبــلـى بــمــا هَــيّـأتُ مـن صُــوَرِ
//
مـاضٍ إلـــيــكِ غــدي يُــســـابِــقُــهُ
يَـومـي ويَــســبـقُ أنــمـلـي وتَــري
**
الحب والوطن
توأمان سياميان ..
متشابهان
باستثناء :
أنّ للوطن حدودا
ولا حدود للحب!
***
كلُّ ضـغـائن العالم
أضعفُ من أنْ
تهزم
قلبين متحابّين
***
نحن كالأسماك ياحبيبتي :
نموتُ إذا لم نغرقْ
بحب الوطن ..
وكالحب :
تصدأ مرايانا
إنْ لم نُزِلْ عنها ضبابَ الكراهية
***
تضرّعتْ روحي :
اللهمَّ أعطِني قلباً لا يعرف الحب ..
واغفرْ لي جنوحي
لأن القلب الذي لا يعرف الحب
لن يعرف العبادة!
***
إثنان لا ينضبان:
الألم … والأمل
الأول بحرٌ أحمق
والثاني طوق نجاة ..
لن أخشى حماقاتي
مادمتِ طوق النجاة
ياحبيبة من ماء وتراب
مِنَ الْمُهِمِّ التنويه هُنَا الى أَنَّ الانتقالَ المذكور آنفاً، أفضى إلى تحولاتٍ بنيوية فِي مسارِ حياة السَمَاوي، ولعلَّ فِي طليعةِ تلك التغيرات هو مضاعفةُ منزلته فِي البيت، وترسيخ ميّزه عَنْ بقيةِ أشقائه وشقيقاته، فقد أصبح مصروفه اليومي عشرة فلوس وَأحيانا خمسة عشر فلسا – قيمة الدينار العراقي حينئذ كانت تعادل ألف فلس- وأصبح الفتى السَمَاوي أكثر شغفاً فِي اعتمادِ مَا متاح مِن الآلياتِ الَّتِي بوسعِها المُسَاهَمَة فِي تطويرِ تكوينه الشخصي وَزيادة وعيه الفكري وَتحقيق نضجه السلوكي عبر السعي فِي محاولةِ توسيع مَا تتطلب مهمة بناء شخصيته مِنْ آفاقِ البناء التربوي تَبعاً لمقاييسِ الحياة المعاصرة، حيث كان يبدي اهتماماً بالغاً فِي الاعتناءِ بمظهرِه بعد أنْ وجدَ متعة فِي الاستمرارِ بكيِّ بنطلونه وقميصه عَلَى خلفيةِ شراء والده ” مكواة ” لا مثيل لها فِي عالمِ اليوم؛ إذ أَنَّ إمداداتِ الكَهْرَباء لَمْ تكن مصدراً لطاقَتِها الحراريَّة، وَإنما تعتمد فِي اشتغالِها عَلَى الطَّاقَةِ الحراريَّة المستمدة مِن الجمرِ الَّذِي يجري الحصول عَلَيه بواسطةِ حرقِ الفَحْم أو الحطب، حيث صممت هذه المكواة الَّتِي كانت ثقيلة الوزن بشكلٍ يسمح بفتح سطحها العلوي يدوياً مِنْ أجل وضعِ الجمر الساخن بداخلِها وَإعادة غلقها قصد تسخينِها وجعلها جاهزة لِكَيِّ الملابس. وَمما هو جدير بالاهتمامِ أَنَّ أولَ ظهور للمكواةِ يعود بحسبِ الروايات التاريخية إلى القرنِ الرابع الميلادي الَّذِي شهد اختراعها مِنْ قبلِ أهل الصين قبل أنْ تمر بمراحلٍ تطويرية عديدة مِنْ ناحيتي الشكل والأداء والمواد المستخدمة فِي تصنيعها، حيث اعتمدت أشكالها الأولية عَلَى استخدامِ الخشب، ثم الرخام، فالزجاج قبل أنْ تستقرَ آراءُ المصممينَ عَلَى الركونِ إلى اِسْتِغلالِ المعادن بفعلِ جودتها فِي توصيلِ الحَرَارَة وَالاحتفاظ بِها، واستمرت محاولات تطويرها حتى اختراع المكواة الكهربائية فِي منتصفِ القرن المنصرم، وَتحديداً عام 1950م.
أخمرةٌ صوفيةٌ
عَـتَّقها في ثغركِ العشقُ
يرى شاربُها الفردوسَ في دنياهْ ؟
أسكرني حين رشفتُ القبلةَ الأولى
فجُنَّتْ شفتي
وأدمنتْ أوردتي طِلاهْ
فكيف لا يسكرُ هذا الثغرُ
من شذاهْ؟
***
بين احتضاري في غيابك
وانبعاثي في حضورك :
أتدلّى مشنوقاً بحبل أسئلتي
مُحدّقاً بغدٍ مضى
وبالأمس الذي لم يأتِ بعد
***
حين نستقل قارب التجوال فِي قنوات الماضي القريب لاستعادةِ مَا يخدم البحث مِنْ مجريات تلك الأيام، بالإضافةِ إلَى إفادته فِي المُسَاهَمَة بإغناءِ مضامينه، نلحظ بشكلٍ جلي أنَّ أهميةَ الإنجازات الَّتِي أفرزتها تجربة مجلس الاعمار فِي خمسينياتِ القرن الماضي، لَمْ يكن بوسعِها إيقاف التراجع الحاصل فِي القِطاعِ الزراعي، حيث شهدت تلك الفترة ارتفاع معدلات هجرة الفقراء والمعدمين مِن الريفِ إلى المدينة، وَالَّتِي عَلَى أثرِها أقيمت فِي أغنى بلدان العالم وَأعرقها حضارة وَمَدَنيَّة مَا أشير إليها باسْمِ ” مدن الصرائف ” الَّتِي شكلت فِي العاصمةِ بغداد لوحدِها مناطق واسعة أقامها المهاجرون الذين كان أغلبهم مِن العاملين فِي معاملِ صناعة الطابوق وَأعمال البناء وَالمتطوعين فِي دوائرِ الشرطة أو الجيش. وَيرى المتخصصون أنَّ نصيبَ المجتمع العراقي مِنْ أنْشِطَةِ قِطَاعَات الصِحة وَالتَّعْلِيم وَالخدمَات البَلَديَّة كان ضئيلاً جداً حينئذ بسببِ تواضع التخصيصات المَالِيَّة الخاصة بهذه القِطاعات مِنْ قَوَانِينِ موازنة الدَّوْلَة العامة، وَعَلَى الرغمِ مِنْ أنَّ تخصيصاتِ التَّعْلِيم كانت أكثر مِنْ تخصيصاتِ القِطاع الصِحي، إلا أنَّها كانت قليلة جداً مقارنة بالزياداتِ السنوية التي طرأت عَلَى قيمةِ الموارد الرئيسة لبناءِ الدخل فِي السنواتِ الأخيرة مِن العهدِ الملكي، فلا غرابة مِنْ محدوديةِ تطور أداء وزارة المعارف – التربية حالياً – خلال ثلاثة عقود مِن الزمان، فمثلاً ازداد عدد المدارس الإبتدائية فِي عامِ 1957م بمعدلِ سبع مرات فقط عَنْ عددِها في عامِ 1927م. وَليس خافياً أنَّ ضعفَ الاهتمام الحكومي بالقِطاعِ التربوي المتزامن مَعَ صعوبةِ ظروف المعيشة كان أحد الأسباب الرئيسة لانتشارِ الأمية فِي بلادِنا، وَلعلَّ خيرَ مصداقٍ عَلَى مَا تقدم هو لجوء السواد الأعظم مِن الأهالي فِي تلك الأيام إلى ” الملا ” مِنْ أجلِ قراءة المكاتيب – الرسائل – الَّتِي تَرِد إليهم وكتابة ردهم عَلَيها؛ لِذا فإننا لا نبعدُ عَنْ الحقيقةِ إذا مَا قلنا إنَّ المعلمَ بمؤهلاته العلمية وَالمعرفية وَتفاعله مَعَ المُجْتَمَعِ، كان يفرض شخصيته وَاحترامه عَلَى محيطِه، الأمر الَّذِي عمق رغبة غالبية السكان المحليين فِي التطلعِ إلى عملِ أبنائهم فِي مجالِ التَّعْلِيم.
أكلُّ هذه السنين العجاف ..
الهجير ..
الحرائق ..
معسكرات اللجوء … المنافي ..
وقلبي لم يزلْ
أعمقَ خضرةً من كلّ بساتين الدنيا ؟ !!
***
ياسادتي الولاةُ في مدائنِ الأحزانْ
جميعكم أحصنةٌ
لا تملك الأمرَ على لجامها
فكيف للشعوبِ أن تقيمَ مهرجانها
حين يقودُ ركبَها حصانْ
يركبه المحتلُّ والآفكُ
والمنبوذُ والجبانْ؟
***
أيها الحزن لا تحزن ..
أدرك أنك ستشعر باليُتم بعدي ..
لن أتخلى عنك
أنت وحدك مَنْ أخلص لي
فكنت مُلاصقي كثيابي
حين تخلى عني الفرح
في وطن يأخذ شكل التابوت!
تأسيساً لِمَا تقدم، فإنَّ انتظامَ السَماوي بمرحلةِ الدراسة المتوسطة كان يعني بالنسبةِ لأمه وَأبيه – طيب الله ثراهما – معبراً أمده ثلاث سنوات يؤهله لدخولِ ” دار المعلمين ” الَّتِي تفرض عَلَيه ضوابطها الدراسة لثلاثِ سنوات أخرى مِنْ أجلِ أنْ يتخرّج معلماً، وَالَّذِي كان يشكل أقصى أحلام والديه؛ إذ كانا ينظران إلى خاله علي ” رحمه الله ” نظرة إكبار وَتبجيل، بوصفِه الوحيد مِنْ بَيْنَ أفراد أسَرة جده وأعمامه وأخواله، فضلاً عَنْ بقيةِ أقربائه فِي مدينةِ السماوة مَنْ أكمل دراسته وتخرّج مُعلّماً وَضمن مستقبله كموظفٍ حكومي وَليس كبقّال أو عطّار أو بائع ” شربت ” – وَهي المهن المتواضعة الَّتِي مارسها جده وَأبوه وَأعمامه وَأقرباؤه.
أعرف تماماً أين يرقد ” نيوتن ”
وأين كان الحقلُ
لكن :
في أي تنور انتهت الشجرة ؟
وفي أية معدة استقرت التفاحة ؟
***
أعرفُ أنَّ العبيد
هم الذين شيّدوا :
الأهرام ..
سور الصين ..
جنائن بابل ..
ولكن :
أين ذَهَبَ عرقُ جباههم ؟
وصراخهم تحت لسع السياط
أين استقر ؟
***
إنْ كان يستأصل محتلّاً
وما يتركُ في مستنقع السلطة من أذنابْ ..
إنْ كان يستأصل من بستاننا الضباعَ
والجرادَ ..
والذئابْ
وسارقي قوت الجماهيرِ
وتجّار الشعارات التي شوّهتِ المحرابْ ..
إنْ كان يجتثُّ الدراويش
المفخخين بالحقد ..
وساسة الدهاليز
الذين يعرضون بيتنا للبيع
خلف البابْ
فإنني :
أبارك الإرهابْ
***
إرتباك عاشقين
أفزعهما انفجارُ قنبلة
أو صفارة إنذار ..
سقوط عصفور بشظية ..
أو جرح سعفة نخلة :
أسباب وجيهة
لرفضي الحروب
ما لم تكنْ
ذوداً عن وطنٍ
وكنساً لوحل احتلال !
**