( الحلقة الخامسة )
يقولُ أدونيس إنَّ الشعرَ ليس مجردَ تعبيرٍ عَنْ الانفعالاتِ وَحدها، إنَّمَا هو رؤية متكاملة للإنسانِ وَالعَالم وَالأشياء، وَكُلِّ شاعرٍ كبير هو مفكرٌ كبير. وَلا أخفي سراً أَنَّ تمعّني فِي الرؤيةِ المذكورةِ آنفاً، كان مِنْ بَيْنِ أهمِ الأسباب المَوْضُوعِيَّة الَّتِي حفزتني للخوضِ فِي غمارٍ – مَا أتيح لي – مِنْ تجربةِ الشاعر الكبير يحيى السماوي بأبعادِها الإنسانيَّة، بعد أنْ تيقنتُ مِنْ سموِ منجزه الشعري المغمس بثراءٍ فكري وَحس وَطني وَوَعى عقلاني يعبرُ عَنْ إيمانٍ بسلامةِ الخطى وَوضوح الرؤية، فلا غرابةَ فِي أنْ يكون للإنسانِ وَالحبِ والجمالِ حضورٌ وجدانيٌّ فِي مَا تباينَ مِنْ أجناسِ نصوصِه الشعريةِ الرشيقةِ الأنيقة، والمؤطرةِ بذوقٍ عالٍ وحسٍ مرهف.
للطُفُولةِ بجمالِها الأخاذ وَسحرها الشجيّ المُتشرِّب بعذوبةِ البراءةِ وَصفاء القلوب وَرقتها، وَالَّذِي يجعل مِنْ نقاوةِ أيامها فضاءٍ وردي، يعيش الإنسان بهجته بِلَا خوف مِن المجهول، وَمِنْ دُونِ التفكير بِمَا قد يُمليه المُسْتَقْبَل مِنْ التزامات، فضلاً عَما يحتمل مِنْ عناءِ القادم مِن الأيامِ أو مَا يخبّئه لَه الغد مِنْ مفاجآت؛ إذ تُعَدّ الطُفُولة بوصفِها حديقةٌ غناء تحيط بِهَا حقول المودة مِنْ كُلِّ جانب، وَتحفها أشكال متباينة مِن الزهورِ الَّتِي تزخرف الأفق وتشع بمخمليةِ بريقِ ألوانِها، فتغدو العفوية المطلقة علامتها الفارقة، وَلا يفوح مِنْها غير رائحة البراءة الجميلة.
المثيرُ للاهتمامِ أَنَّ ابنَ المدينةَ الَّتِي قدر لها اختطاف انتباه الناس بأغنيةٍ فولكلورية بدلاً مِنْ لفتِ الأنظار بأناقةِ إطلالةٍ مُعبرةٍ عَنْ اهتمامٍ بالغٍ مِنْ لدنِ الحُكُومات المتعاقبة، لَمْ يعش ذلك العَالم المدهش – الَّذِي لا يفكرُ فِيه المرء وَلَا يقلق مِنْ شيء – بعيداً عَنْ أزقةِ أحياء المعوزين؛ إذ أَنَّ طُفُولتَه لا تختلف عَنْ طُفُولةِ أيِّ طفلٍ فقيرٍ لَمْ يعرف للدُمى سبيلاً وَلَا للرفاهيةِ معنى؛ فالسَماوي يحيى لَمْ يعش طُفُولته كَمَا يفترضُ أنْ تُعاش؛ لأَنَّ الأَمْرٌ المُسَلَّمٌ بِهِ هو أنّ الفقراءَ لا طُفُولة لهم؛ إذ غالباً يبدؤون الشيخوخة مَعَ بدءِ الصبا وَالفتوة وَهم يرون أترابهم أبناء الأغنياء يركبون الدراجات الهوائية، ويلبسون الجديد مِن الثياب، فضلاً عَنْ البنطلوناتِ والقمصان الفَارِهَة، وحقائبهم المدرسية – الَّتِي يتضايقون مِنْ حملِها – مليئة بأصنافِ الحلوى، إلى جانبِ مَا لَذَ مِن المعجناتِ ومَا طابَ طَعمهُ مِن الفواكه، بخلافِ أبناء الفقراء وَالمعوزين الَّذين لا يحملونَ مَعَهم فِي الأكياسِ النسيجية – الَّتِي تصنعها أمهاتهم أو جداتهم كحقيبةٍ مدرسية -غير قطعة خبز أو قليلاً مِن البَلَحِ الرخيص يوم كان النَخِيْل يشع بخضرته الزاهية عَلَى أَرْضِ العراق، وَعذوق البلح تعانقُ حتى قصاره.
بُعْدي عَن المعشوقِ شلّ صَوابي
وَأذابَ دَمعُ الشوقِ مِلـــحَ شبابي
تاهَ الخيــــــــــالُ بِنَا فَمَدَّ بساطه
حقلَيـــــــنِ مِنْ قُبَلٍ وَمِنْ أعنابِ
لولا اغترابُ النخـلِ عَنْ بستانِهِ
مَا كـان مذبوحَ السطورِ كِتــابي
وَهَبَتْكَ باديـــةُ السَماوةِ صبرَها
ووهَبْتَـها عشقَ الدُّجـى لِشهابِ
لَعَلَّنا لا نبعدُ عَنْ الواقعِ أو نبالغ إذا قُلْنَا إنَّ الأطفالَ فِي المجتمعاتِ الفقيرة، ينتظرون عَلَى الدوامِ قدوم العيد بلهفةٍ وَشوقٍ كبيرين مِنْ أجلِ لبسِ ( دشداشة ) جديدةٍ أو الحصول عَلَى قميصٍ جديد، بالإضافةِ إلى ( العيديةِ ) الَّتِي سيحظون بها مِنْ أهلِهم وَأقاربهم، وَهو الأمر الَّذِي يجعل أياً مِنْهم لَا ينفك عَنْ السؤالِ حَوْلَ مَا تبقى مِنْ أيامٍ لحلولِ يوم العيد، وَالَّذِي يدخل الفرحة إلى قلوبِهم النقيةِ الخاليةِ مِنْ همومِ الحياةِ وَمشاغلها، فتبدو عليهم مظاهر السعادة الغامرة عند حلوله. وَأدهَى مِنْ ذلك أَنَّ إجابةَ الأهل غالباً مَا تكون متوافقة مَعَ براءةِ الأطفال؛ إذ تقوم عَلَى محاولةِ إقناعهم بأَنَّ العيدَ يسيرُ فِي الطريقِ وَهو قريب الوصول، وَقد تكون وجاهة ركونِ الكبار لهَذَا المنحى قائمة عَلَى مقاصدٍ إنسانيةٍ تَسعى لتقريبِ معنى العيد ليكون قريباً مِنْ مخيلةِ الصغار، وَالَّذين مَا برحت الآمال بقدومِ الزائر المنتظر؛ ليغمر أيام قليلة بنشوةِ البهجة والهناء.
أيها العابرُ : لحظةً من فضلك ..
هلا التـَقـَطـْتَ لي صورة تذكاريةً مع الهواء ؟
وثانيةً مع نفسي ؟
وثالثةً جماعيةً
مع الحزن والوحشةِ
وأمي النائمة في قلبي ؟
المذهلُ فِي الأمرِ أَنَّ الطينَ الَّذِي كان يمثلُ – آنذاك – مادة السَمَاوي الرئيسة وَالوحيدة المتاحة لتَشكيلِ الخيول والصبيان والصبيّات، كانت أمه – رحمها الله – تحذّره منه؛ خوفاً مِنْها عَلَى نظافةِ ثيابه لا عَلَى يديِّه الناعمتين، بالإضافةِ إلى أَنَّ ضيقَ الزقاق الَّذِي يقطن فِي أحدِ منازلِه، لَمْ يكن يسمح له ولأصدقائِه اللعب بكرةِ القماش الَّتِي تفنن فِي صنعها مِنْ زوائدِ أقمشةٍ جَهَدَ فِي جمعِها مِنْ سوقِ الخيّاطين القريب مِنْ بيته بعد أنْ قامَ بربطِ مَا تَجَمع لديه مِنْ بقايا الأقمشة إلى بعضِها بإحكام؛ لأجلِ اعتمادها بديلاً عَنْ كرةِ القدم الحقيقية، مَعَ العرضِ أَنَّ أطفالَ الجيل الحالي – الَّذين أصبحوا أسارى التِقنيات الحديثة – لَمْ يتسن لهم مُحاكاة البراءة بألعابٍ قديمة عَفَا عَنْهَا الزَمَن، كالتمتع برؤيةِ كرة – أبعادها غير قياسية وَمحيطها غير متجانس – مصنوعة مِنْ لفافاتِ القماش وبقايا الألبسة القماشية، وَهي تتطاير بضع أمتار فِي الهواء، قبل أنْ تعودَ إلى الأَرْضِ لِتَجدَ بانتظارِها أقداما غضةٍ لمجموعةٍ مِنْ صبيةِ حفاة، وَالَّذين سرعان مَا يشرعون فِي التسابقِ بقصدِ الاستحواذ عَلَيها تمهيداً لركلِها ببهجةٍ وسرورٍ بمعيةِ القهقهات الَّتِي تملأ الأفواه تعبيراً عَنْ لغةِ المرح البريئة الَّتِي تكاد أنْ تكون بمثابةِ قناديلِ سعادةٍ تضيء أروقةِ مَا تواضع مِنْ أمكنةِ المحلاتِ الشعبية فِي مدنِنا، بالإضافة إلى مُساهمتها فِي تَنميةِ روحِ الجماعة.
لعلَّ مِن المناسبِ اليوم، وَنحنُ فِي غمرةِ تلك الذكريات الَّتِي انطوى صدى بعضها فِي عالمِ النسيان، أنْ نُشيرَ إلى أَنَّ السَمَاويَ مَا عرف الرفاهية فِي حياته، إلا حين سافر أبوه – طيب الله ثراه – إلى الكويتِ أملاً فِي الحصولِ عَلَى عملٍ يدرً عَلَيه ربحاً أكثر ممَا كان يحصل عَلَيه مِنْ مهنةِ البقالةِ فِي السماوة؛ بغية تحسين معيشة عائلته، غَيْرَ أَنَّ والده عادَ إلى مدينتِه بعد شهور قليلة مِنْ رحلتِه مكتفياً ببضعِ عشراتٍ مِن الدنانير، فضلاً عَنْ حقيبةٍ محشوةٍ بملابسٍ متواضعة وحاجيات أخرى مِنْ بَينِها صندوق مصنوع مِن الورقِ المقوّى السميك. والمتوجب إدراكه هُنَا هو أَنَّ المخرجاتَ الَّتِي أفرزهَا تتابع تلك اللحظات كانت كافية لإحساسِ السَمَاويّ بطعمِ الرفاهية لأولِ مرةٍ؛ إذ حين بدأ والده بفتحِ ذلك الصندوق – الَّذِي لا أعتقد أَنَّ بوسعَ مَا تعرض لَه المتيم بحبِ نخيل السماوة مِنْ صعوبات فِي حياته القدرة عَلَى إزاحته مِنْ ذاكرِته – كانت تظهر أجزاءً معدنية بدت لَه غريبة أول الأمر. وبعد أنْ قام بتركيب تلك الأشياء وَشدّ بعضها الى بعض، أصابه الذهول حين تحولت تلك المواد الى دراجةٍ بثلاثِ عجلات، وأخذ يقفز فرحاً؛ ليقينه أَنَّ أبَاه اشتراها لَه لكونه أكبر أشقائه وشقيقاته.
لأَنَّ وقتَ تركيب أجزاء الدراجة الصغيرة كان ليلاً، فضلاً عَنْ كونِ غرفة العائلة في بيتِ جده لأمِه – رحمهما الله – لا تتسع لركوبِ الدراجة، بقي يحيى ينتظر بزوغ فجر يوم جديد بفارغِ الصبر، وَلعلَّ قساوة صبر تلك الليلة – الَّتِي لا يمكن لفواجعِ السجون واغتراب المنافي أنْ يمحوَاها مِنْ ذاكرةِ أيامه – قد تناسل ليغدو صرخة وطن بوجه الظلام والاستبداد وَسراق المال العام. وَحين استيقظت الشمس مِنْ نومِهَا بعد طول انتظار، وَبدأ قرصها بالاحمرارِ معانقاً السماء، اضطر الفتى السومَريّ إلى الاستعانةِ بوالدته رحمها الله؛ لأجلِ إنزال دراجته مِنْ حجرتِهم المقامة عَلَى سطحِ المنزل، بَيْدَ أنَّ فرحته الكبيرة بِهَا تحوّلت إلى حالةِ حزنٍ عميق، اتضح مِنْ خلالِ مرارة بكائه بفعلِ عجزه عَنْ قيادةِ دراجته فِي زقاقِهم؛ بالنظرِ لكونِها أعلى مِنْ أنْ تصلَ قدماه إلى دوّاسةِ الحركة، وهو الأمر الَّذِي ألزمه الانتظار عاماً وَرُبَّما أكثر بقليل حتى تطول سيقانه؛ لأجلِ أنْ يتمكّنَ مِنْ قيادتِها والتجوال بها فَرِحاً فِي ذلك الزقَاق، مَعَ العرض أَنَّه كان طيلة عام انتظاره يَتوَسّلُ إلى الله تبارك وَتعالى أنْ يُطيلَ ساقيه شبراً أو نصف شبر كي يستطيع ركوب دراجته.
السَمَاويُّ – الَّذِي يَعدُّ عشق السَمَاوة مِن الإيمان – يعبرُ عَنْ دماثةِ خلقه وتواضعِه الجم وَقلة حديثه عن نفسه أو مفاخرته بشعرِه فِي الإشارةِ أكثر مِنْ مرةٍ إلى وقوعِه تحت سطوة ذات الشعور الَّذِي تلبّسه عندمَا اكتشف أَنَّ ساقَيه أقصر مِنْ أنْ تصلا دوّاسة الحركة بقصد قيادة دراجته؛ لأَنَّ أبجدية نبضه أقصر مِنْ أنْ تصل ( دوّاسة أبجديته )، فتقوده إلى جمهوره ليعبر عَنْ مشاعره، بالإضافةِ إلى تأكيده عَلَى أَنَّ طفلَ الأمس البعيد، كبر وأصبح رجلاً جاوز الستين منذ سنين، إلا أَنَّ قلبَه مَا يَزال طفلاً، وَالأطفال يبكون أحياناً مِنْ شدةِ الفرح، فلا عجب لو بكى قلبه فرحاً.
حين أزور أمي
سأنثر على قبرها قمحا كثيرا ..
أمي تحب العصافير ..
كل فجرٍ :
تستيقظ على سـقسـقاتها ..
ومن ماء وضوئها : كانت أمي
تملأ الإناء الفخاريَّ تحت نخلة البيت
وتنثر قمحا وذرة صفراء