18 ديسمبر، 2024 8:41 م

مرافئٌ فِي ذاكرةِ يحيى السماوي

مرافئٌ فِي ذاكرةِ يحيى السماوي

( الحلقة الثالثة )
(( يقولُ أدونيس إنَّ الشعرَ ليسَ مجردَ تعبيرٍ عَنْ الانفعالاتِ وَحدها، إنَّمَا هو رؤية متكاملة للإنْسَانِ وَالعَالم وَالأشياء، وَكُلِّ شاعرٍ كبير هو مفكرٌ كبير. وَلَا أخفي سراً أَنَّ تمعّني فِي الرؤيةِ المذكورة آنفاً، كان مِنْ بَيْنِ أهمِ الأسباب المَوْضُوعِيَّة الَّتِي حفزتني للخوضِ فِي غمارٍ – مَا أتيح لي – مِنْ تجربةِ الشَاعر الكبير يحيى السَمَاوي بأبعادِها الإنسانيَّة، بعد أنْ تيقنتُ مِنْ سموِ منجزه الشعري المغمس بثراءٍ فكري وَحس وَطني وَوَعى عقلاني، فلا غرابة فِي أنْ يكون للإنسانِ وَالحبِ وَالجمال حضورٌ وجدانيٌّ فِي مَا تباين مِنْ أجناسِ نصوصِه الشعرية الرشيقة الأنيقة، وَالمؤطرة بذوقٍ عالٍ وحسٍ مرهف )).

لَعَلَّ مِن المنَاسبِ اليَوْم – وَنحن فِي خضمِ الحديثِ عَنْ بعضِ المحطاتِ الَّتِي مَا تَزال آثارها محفورة فِي ذاكرةِ الشاعر يحيى السَماوي – أنْ نُشيرَ إلى مجموعةِ منازلَ مِنْ طرفِ الغربي فِي مدينةِ السَماوة، تَشكلت مِنْها أزقةٌ ضيّقة فِي فضاءٍ لا يبعد سوى مرمى حجرٍ عَنْ نهرِ الفرات، وَالَّتِي ليس بالضرورةِ أنْ تكون مستقيمة، حيث ظهر بعضها متعرجاً، كحالِ نظيراتها فِي بقيةِ مناطق البلاد، وَمِنْ بَيْنِها مَا تبقى مِنْ محلاتِ بَغْدَادُ القديمة الَّتِي مَا تَزال حتى اليوم ماثلةً للعيانِ، بعد أنْ أفضى جهل الادارات الَّتِي لَمْ تبلغ سن الرشد الإداريّ، فضلاً عَنْ تركِها الحبل عَلَى الغارب إلى إهمالٍ تلك المواقع التاريخية، وَفسح المجال أمام العابثين للنيلِ مِنْ حكاياتٍ ذهب أصحابها، وَالمُسَاهَمَة فِي اضمحلالِ أسلوبِ عمارتها، وَإفساد رونقها. وكان أهم ما يميز تلك الأزقةٌ الَّتِي يشار إليها مَحَلِّياُ باسْمِ (العكَد)، هو البساطة فِي طابعِ بنائها، إلى جانبِ تلاصقِها ببعضِها البعض إلى الحدِ الَّذِي جعلها تبدو للناظرِ بمثابةِ بنية متماسكة، أبوابها مؤصدة وَنوافذها صامتة. وَالْمُلْفِتُ أَنَّ تلكَ المنازل، كان يجري إنشاؤها عادةُ بمعزلٍ عَنْ التفكيرِ فِي تغطيةِ جزءٍ مِنْ مساحاتِها لِمَا متعارفٌ عليه فِي عالمِ اليوم مِنْ أغراضٍ جمالية أو ترفيهية، بالإضافةِ إلى خلوِها مِنْ اللمساتِ الفَنِّيَّة بفعلِ ضيقها وَمحدوديةِ مساحاتها، فبالكاد تجدُ ربةَ البيت مكاناً مناسباً لنصبِ تنورها الَّذِي يتوجب إقامته بقصدِ تغطية مَا يحتاجه صغارها مِنْ أرغفةِ الخبز؛ إذ أَنَّها أُعدت بالأساسِ لأجلِ المأوى، مَعَ العرض أَنَّ إقامةَ دَّارٍ للسكن أو الحصول عَلَيها فِي ذلك الزمان، لَمْ تكن مهمة يسيرة، إلى جانبِ عدمِ إتاحتها للسوادِ الأعظم مِن الشعب، الَّذِي يعيش غالبيته شظف العيش وَقساوته، بالإضافةِ إلى معاناته مِنْ ضيقِ ذات اليد، الأمر الَّذِي أفضى إلى محدوديةِ تطلعات الأفراد وَبساطة أماني رب الأسرة ، وَاقتصارِ اقصاها عَلَى سقفٍ يحتويه وَعياله، وَلسان حاله يقول المرء فِي داره أمير.

وَلِــي عُـذْرِي إِذَا يَبِسَتْ حُـرُوْفِي

عَلَـى شَفَـتِي وَجَـفَّ صَدَىً أَثِيْرُ

تَقَـرَّحَتِ الرَّبَــابَةُ … وَالـمَــرَايَا

مُقَــرَّحَةٌ … وَخُـبْزِي وَالنَّمِيْرُ

أَيُـغْوِي سَعْفُــهُ الـمَحْــرُوْقُ طَيْـراً

نَخِـيْــلٌ ؟ وَالعَصَافِيْرَ القُبُوْرُ؟

هَرَبْـتُ إِلَيْــهِ مِنِّي بَعْــدَ عَشْـرٍ

وَنِصْـفِ العَشْـرِ فَارَقَهَا الـحُبُوْرُ

رَأَيْـتُ النَّخْــلَ – مِثْلَ بَنِيْهِ – يَبْكِي

فَيَمْسَـحُ دَمْــعَ سَعْفَتِهِ الـهَـجِيْرُ

مِنْ أجلِ الحفاظ على خصوصية العائلة، وَبقصدِ منعِ الأغراب مِنْ إختلاسِ النظر إليها، إعتادت العوائل العراقية – فيما مضى – عَلَى تجهيزِ الأبواب الخارجية لمنازلِها بستارةٍ نسيجية مما متاح مِن القماش وأن تعددت ألوانه أو أشكاله؛ لأَنَّ غالبيةَ المنازل كانت قد شيدت بطريقةٍ تجعل منها مطلة بشكلٍ مباشرٍ عَلَى الأزقةِ أو الشوارع، الأمر الذي جعل الحاجة قائمة لتثبيت ستارة القماش؛ لأجلِ التيقن مِنْ حجب مَا يحدث خلفها مِن فعاليات العائلة وَأنشطتها. وَمثلما ساهمت تلك الستائر فِي صيانةِ كرامة العوائل وَحفظ أسرارها، أفضت طيبة البسطاء الذين يسكنون تلك البيوت إلى المُسَاهَمَة فِي ترسيخِ أسس المواطنة الصالحة، وتعميق الانتماء الوطني والتعايش الإنساني. وَعَلَى الرغم مِنْ سعةِ البون مَا بين الأزمنة وإختلاف العصور، إلا اَنَّ أصالةَ مدن الفقراء والمعوزين، ما تَزال باقية كخيطِ الظل الَّذِي يتحرك بعبقِ الماضي مِنْ وراءِ تلك الحجب النسيجية بعيداً عَنْ صخبِ المعاصرة وَهمومها. وَلعلَّ خير مصداق عَلَى سلامة هَذِه الرؤيةِ هو إجابة أبا الشيماء على إحدى مداخلاتي قبل سنوات، وَالَّتِي يقول فِي قسمٍ مِنْها: (ترى أيّة روعة سيكون عَلَيها الإنسان حين يكون عقله نهر إيمان، وقلبه بستان محبة إنسانية، ويداه لا تكفّان عَنْ التضرعِ إلى الله ليجعل خبز الفقراء أكبر مِن الصحن، وَالصحن أكبر مِن المائدة، والمائدة عَلَى سعةِ الوطن؟).

فـتـّشـْتُ في كلّ نـافـيـاتِ حـروبِ الـقـهـر

عـن مـديـنـتـي ..

فـتـَّـشـتُ ما بين سـبـايـا الـعـصـرِ عـن حـبـيـبـتي ..

وعـن فـراتٍ سـاحـرٍ عـذبِ ..

وفـجـأةً :

رأيـتُ نـخـلـةً عـلى قـارعـةِ الـدربِ ..

هـزَزْتـُـهـا

فـانـهـمَـرَ الـدمـعُ عـلى هـدبي ..

وعـنـدمـا هـززتُ جـذعَ الأرضِ

يـا ربّي :

تـسـاقـَطَ الـعـراقُ في قـلـبي !!

مَا بَيْنَ زحمة الدكاكين المتراصة عَلَى جانبي السوقِ المسقوف – الَّذِي يُعَدّ أحد المعالم التاريخية لمدينةِ السماوة – وَتحديداً عند بدايته مِنْ جهةِ النهر، كان والده رحمه الله يعمل يوم ولادته فِي حانوتِ بقالةٍ صغير، أجيراً عند عمّه – جده لأمه – حتى مَـنّ الله تبارك وَتَعَالى عَلَى أبي يحيى بنعمتِه، فَعمدَ إلى الاستقلالِ فِي عملِه؛ إذ سرعان ما وجد له مستقراً عَلَى رصيفٍ مِن أرصفةِ تلك المدينة البائسة، وَالَّتِي لَمْ تظهر عَلَى جنباتِها مَا يشير إلى علاماتِ التطور حتى فِي أيامِ الألفية الثالثة، عَلَى الرغمِ مِنْ أَنَّ كتبَ التأريخ تشير إلى ازدهارِ المدينة مِن الناحيةِ الاقْتِصَادِيَة والتِجاريّة فِي عهدِ الدَّوْلَة العثمانية.

ليلةٌ واحدةٌ من فـرحٍ

تكفي لأنْ تغسلَ حزنَ العمرِ

لكنْ :

كيف للهدهدِ

أنْ يحملَ بشراهُ إلى نافذتي

في زمنٍ

أصبح فيه الصُّبحُ

أدجى من عباءات الدراويشِ

وأحداقِ المداخِنْ؟

***

مسكينٌ وطني

منطفئُ الضحكةِ

مفجوعُ الإنسانْ

لو كان له مثلي

قدَمٌ وجوازٌ ولسانْ

لمضى يبحث في المعمورة

عن ملجأ أوطانْ !

لا رَيْبَ أَنَّ طموحَ والده فِي محاولةِ تحسين حال أسرته، حفزه إلى السعيِّ الحثيث لاستغلالِ موقعِ مناسبٍ فِي مَا متاح مِن أروقة المراكزِ التجارية المتمثلة يومها بأسواقِ شعبية؛ لأجلِ توظيفه فِي ممارسةِ مهنةِ البقالة الَّتِي خبر اسرارها مِنْ عمله السابق، فكان أنْ جمع مِن الرزقِ الحلال مِنْ عمله الجديد، مَا أعانه عَلَى استئجارِ دكانٍ صغير لا تتعدى مساحته أربعة أمتار مربعة، ثم مَا لبث أنْ استأجر بيتاً صغيراً بغرفةٍ واحدةٍ لإسكانِ عائلته المكونة مِنْ أربعِ بنات وَأربعة بنين.

يَومي لـــــــه ليلانِ.. أين نَهاري؟

أتكون شمسي دونمــــــــــا أنوارِ؟

أَبْحَرتُ فِي جسدِ الفصول مهاجراً

طاوي الحقولِ وليس مِنْ أنصـارِ

زادي يراعي والمدادُ.. وصهوتي

خوفي.. وظبيـةُ هودجي أفكـاري

أَبدَلتُ بالظلِّ الهجيـــــرَ .. لأنني

قد كنتُ فِــــي داري غريبَ الدارِ

مرَّ الربيعُ أمــــــــام نخلي شامتاً

لمـــــــا رأى جيــــدي يتيمَ نضارِ

تَعَبتْ من الصمتِ المذلِّ ربابتي

وَتَيَبِّستْ – كاضالعي – أوتاري

أنا ضائعٌ – مثلَ العراقِ – فَفَتِّشي

عني بروضِكِ لا بليلِ صحاري

أنا لستُ أَوَّلَ حــــاكم نكثتْ به

أحلامُهُ فأفاقَ بـــــــــــعد عثارِ

حظي كدجلةَ والفــراتِ نَداهُما

دمعٌ.. ولحنُهما صراخُ: حذارِ

وكحظِّ بستانِ (السَماوةِ) نَخلهُ

كَرَبٌ وسعفٌ دونمـــــا أثمارِ

وكخبزِها: بدمٍ يُدافً طحينُهُ

وطنٌ على سَعَةِ السماءِ رغيفُهُ

لكنه حكرٌ عـــــــَلى الأشرارِ