19 ديسمبر، 2024 12:20 ص

في عقد السبعينيات من القرن الماضي عندما كنا في المرحلة الابتدائية من الدراسة روى لنا أحد الأساتذة ما يلي: كان في إحدى الجامعات استاذ بلغ من العمر أرذله ولا يزال في التدريس وبكامل قواه العقلية والبدنية ولم يطرأ عليه أي نوع من التغيير الذي يطرأ على الناس الذين يجتازون هذه المرحلة من العمر وبدافع حب الاستطلاع ورغبة في العمر الطويل كان يوجه إليه السؤال التالي من قبل الطلبة وباستمرار، أستاذنا كيف وصلت إلى هذه المرحلة من العمر ولا زلت تعيش حياة يتمناها الإنسان الذي في مقتبل العمر؟ وكان هذا الأستاذ لا يجيب الطلبة على سؤالهم.

ولكن بعد إلحاح الطلبة وافق الأستاذ على إجابتهم مشترطاً أن يقوم بتأليف كتاب ثم يضعه في مكتبة الجامعة ولا يطلع عليه أحد إلا بعد مماته، فطال انتظار الطلبة حتى وافى أستاذهم الأجل وبعد مراسم دفنه توجه الطلبة إلى المكتبة للاطلاع على ذلك الكتاب وبعد فتحهم لصفحاته وجدوها بيضاء دون أن يكتب فيها شيئاً ما عدا الصفحة الأخيرة التي كتب فيها مايلي: إذا أردت العمر الطويل والصحة الجيدة فتتبع النقاط التالية:

أولاً: الأكل القليل: بحيث تترك المائدة أو الوجبة الغذائية وأنت لا تزال في شهية للطعام.
ثانياً: عدم التفكير واسترجاع الهموم والمتاعب حين تأوي إلى فراشك قبل الخلود إلى النوم.
ثالثاً: تدفئة الأرجل والأطراف أثناء النوم. انتهى كلام أستاذنا بتصرف.

وهذه الشروط التي وضعها الأستاذ في الكتاب ليست بسيطة كما نتصور إلا من بعد التمرين والممارسة اللهم إلا الشرط الثالث فهو في متناول أيدينا والذي نستفيده من هذه الرواية سواء كانت حقيقية أو من وحي الخيال، أن الإنسان هو الذي يتحكم في عمره دون أن ننسى أن للطبيعة عوامل مساعدة، فقد نجد متوسط عمر الإنسان يختلف من بيئة إلى أخرى ومن شعب إلى آخر حيث إن للمناخ دور في ذلك إضافة إلى الظروف الملائمة والصحة والحالة النفسية لشعب دون آخر، فالعوامل كثيرة وهذا العمر الذي منحه الخالق لنا يجب الحفاظ عليه بقدر المستطاع أما الأشياء التي تخرج عن إرادة الإنسان فقد يعذر فيها، ومراحل العمر التي يمر بها الإنسان منها ما يكون هو المسؤول فيها عن نفسه ومنها ما يتحمله الأهل أو ولي الأمر الذي يتولى رعايته، لأن الإنسان لا يتحمل مسؤولية سنينه الأولى التي يحتاج فيها إلى التوجيه من الأهل أو المدرسة التي ترعاه.

وبعد هذه المرحلة تأتي مرحلة المراهقة وهذه المرحلة على الرغم من صعوبتها إلا أنها مرحلة نشطة في حياة الإنسان، ومصطلح المراهقة يعني المقاربة وإن كان في التسمية نوع من التوسع حين الإطلاق، والمقصود منها مقاربة الطفل لمرحلة البلوغ وهذا يعني أن الطفل بدأ في مرحلة النضج والرشد العقلي والجسدي، وهذه المرحلة بالذات تحتاج إلى رعاية الأهل إن لم نقل مراقبتهم للطفل لأنها من أخطر المراحل التي يمر فيها الطفل قبيل البلوغ، وفي بعض المناطق الباردة يحتاج الطفل إلى عقد من الزمن بعد هذه المرحلة حتى يبلغ الحلم.

ثم يبدأ بالانتقال التدريجي الذي يفضي به إلى تغيير ملامح جسده وسلوكه وتصرفاته وهنا يبدأ الطفل في تذمر مستمر حيث إن هذه المرحلة تفجر لديه العديد من الأحاسيس، وهذه الفترة المهمة لا يمكن أن تعد بالسنين فقد تكون قصيرة على بعض الأطفال وطويلة على البعض الآخر، ولكنها بكل الأحوال ترافق الإنسان فترة من الزمن تصاحبها قفزات سريعة تؤدي إلى تغيير ملامح الصوت والطول والوزن وما شابه ذلك.

ثم تأتي بعد هذه المرحلة مرحلة الشباب وهذه أجمل المراحل العمرية لدى الإنسان لأنها تصل به إلى النضوج البدني والعقلي على حد سواء، وتعتبر هذه المرحلة بالذات بمنزلة المؤسس للمراحل اللاحقة لأنها تحدد اتجاه الإنسان سواء في التخصص أو الزواج أو علاقاته الاجتماعية وغيرها، وهنا يميل الشاب إلى الاستقلالية وشق طريقه خارج إرادة الوالدين كونه يبدأ مرحلة جديدة من التفهم المواكب للزمن الذي يعيشه اللهم إلا إذا كان الأبوان يمتلكان الثقافة المعاصرة التي يرتضيها الشاب دون منغصات تفرض عليه من قبلهم، ويتوقف على تلك المرحلة المهمة النجاح سواء في الدراسة أو العمل، وقد تتوقف هذه المرحلة على تلك السمات حتى تأخذ مسارها الصحيح في حياة ذلك الشاب.

وبعد ذلك تأتي مرحلة الكهولة والتي تسمى “شباب الشيخوخة” وهذه هي مرحلة الاستقرار، التي افتقدها في المراحل السابقة التي كان يطمح فيها لتحقيق آمال وأحلام لا نهاية لها.

أما الآن فقد أصبح في المرحلة التي تعتبر بمنزلة النتيجة لتلك المراحل بعد الفراغ من متاعب الحياة، وهنا ربما يكون قد فارق الأهل بسبب موتهم أو انتقاله عنهم، وعند هذه المرحلة تكون رؤية الإنسان قد اتسعت فما كان يغيضه بالأمس أصبح اليوم في طور التحكم لديه لأن للعمر أحكام، فما كان يمارسه في شبابه وطفولته مع أقرانه من ضحك ومزاح وتصرفات تعتبر في وقتها صحيحة أصبح اليوم ينظر إليها نظرة مختلفة وربما يلقي اللوم على من يقوم بها وكأنه لم يمر بها.

ثم تأتي بعد ذلك مرحلة الشيخوخة وهذه هي المحطة التي تكون أشبه بنهاية المطاف والخاتمة للمحطات التي مررنا عليها بايجاز وهذه هي المرحلة التي قال عنها تعالى: (ومن نعمره ننكسه في الخلق أفلا يعقلون) يس 68. أي إن الإنسان ينقلب في هذه المرحلة رأساً على عقب، حتى إن قدراته وقواه تبدأ بالتراجع نحو الضعف والوهن ويبدأ التغيير يطرأ على خلقه أيضاً، وكذلك قال تعالى عن هذه المرحلة: (ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم من بعد علم شيئاً) النحل 70. وقريب من هذا اللفظ، الحج 5.

أي إن الإنسان يبدأ بالضعف والنسيان بعد العلم المسبق للأشياء وقد تنهار أعصابه أمام كل المستجدات التي يمر بها والضغط النفسي الذي يصارعه وهنا قد يحتاج إلى نفس الرعاية التي كان بحاجة إليها وهو في سن الطفولة، وقد جمع القرآن الكريم هذه المراحل في قوله تعالى: (هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلاً ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخاً ومنكم من يتوفى من قبل ولتبلغوا أجلاً مسمى ولعلكم تعقلون) غافر 67.

فإن قيل: قصة الأستاذ التي عرضتها في مقدمة المقال تشير إلى أن الإنسان هو الذي يحدد استمراره بالحياة ضمن شروط ذكرتها، وهذا يعني أن الأجل ليس مكتوباً من الخالق جل شأنه فهل تؤيد هذا؟ أقول: نعم إن الأجل لا يحدده الخالق جل شأنه وإن كان هو قائم على كل نفس، باعتبار أن الحياة تسير بواسطة قانون العلة والمعلول وهذا يدخل ضمن الاختيار الذي كرمنا به تعالى والذي ينفي الجبر عنه جل شأنه أما ما تتناقله العامة من الناس من تقديم الأجل وتأخيره فهذا حسب فهمهم الساذج وإلا فإن الآيات ناظرة إلى معنى آخر غير المعنى الذي يتبادر إلى الأذهان وسأناقش تلك الآيات التي يكاد أن يكون اللفظ في واحدة منها مشابهاً للجميع فقوله تعالى: (ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) الأعراف 34.

فهذه الآية لا تشير إلى أجل الأفراد من الناس ولو كانت تشير إلى الأفراد لكان من حق الكلام أن يكون “لكل أحد أجل” ولكن القول انصرف إلى الأمة والمقصود هنا عذاب الاستئصال الذي يقضي على الأمة بكاملها وهو وقت يضرب لانقضاء المدة التي أمهلهم الله تعالى إياها على لسان رسله بسبب تكذيبهم للرسل وقد كرر هذا اللفظ أو ما يشابهه في النحل 61. ويونس 49.

فإن قيل: ماذا عن قوله تعالى: (الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت) الزمر 42.

أقول: الآية صريحة من أن الله تعالى يتوفى الأنفس حين موتها، أي إن هناك سبب معين أدى إلى الموت ثم بعد ذلك توفى الله تلك النفس وقد عقب بقوله: “فيمسك التي قضى عليها الموت” والآية صريحة بنسبة الموت إلى مجهول والإمساك إليه تعالى علماً أن التوفي ليس هو الموت كما حدثنا تعالى عن عيسى (عليه السلام) بقوله: (إذ قال الله ياعيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا) آل عمران 55. وهذا ظاهر حيث إن عيسى لم يمت بعد، كما في قوله تعالى: (وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقيناً) النساء 157.